ليس من وظيفة الأدب أن يغير العالم، والنص لا يحتمل الأحكام الدينية والأخلاقية، لأنه عالم متخيل في كل مكوناته، التراكيب والمفاهيم داخل النص الأدبي تختلف عن النص الديني، مثلًا، عبادة العيون العسلية في القصيدة، مختلف عن مفهوم العبادة في العقلية والتصورات الدينية، وللأسف، سوء الفهم الذي يتأتى من الجدية الدينية أو الفكرية من قِبل المتعصبين والذين يواجهون بها نصًا مُحملًا بشحنات عاطفية وتخيلية، أكثر هشاشة ونعومة من الجدليات والفلسفات التي يعبدونها، يؤدي في نهاية المطاف إلى قتل أو اعتقال أو نفي العديد من الأدباء والمبدعين.
اتهام الكُتاب بالإلحاد والنفاق من أصحاب العقول المغلقة والمتعصبين دينيًا وفكريًا، كما تم اتهامهم سابقًا بأنهم عملاء الغرب والإمبريالية العالمية، مُنبثق من سوء فهم للأدب وضحالة ثقافة وتمترس خلف سواتر أسمنتية من العقائد والأفكار المسبقة.
ليس من وظيفة الأدب أن يجعل منك زوجًا صالحًا على سبيل المثال، أو أن يصلح علاقتك بالله والمجتمع، هو ليس درسًا أخلاقيًا أو دينيًا، الأدب هو الرقص، واللعب بحبال الجمال والإثارة، الكتابة لأجل الكتابة، لا أتصور كاتبًا يكتب عن الوطن لأن من واجبه ذلك، الكتابة ليست واجبًا، وإن كانت كذلك، فليذهب كل الكُتاب إلى الجحيم، العبقرية أن تكتب نصًا في الحب أو الجنس والقذائف تتساقط من حولك، أن تجتر مواطن الجمال مهما أحاطت بك البشاعة، أي معنى أن تتماهى مع السائد والواقعي وتصبح مصلحًا اجتماعيًا وداعية للأخلاق المجتمعية التي ما زلنا نختلف حول ماهيتها.
الأدب ليس رصاصة، بل عشبة تنمو على ضفة نهر، تزيد المنظر جمالًا وبهاءً، بمعنى أن تأثيره خفيف ولكنه يدوم، وهذه الميزة الفريدة التي منحته الديمومة وأنقذته من طواحين التاريخ، وقوفه مع الجمال والقيم العادلة والحقة، وقربه من الإنسان بطموحاته وآلامه وأحزانه وخيباته، ليس أدبًا ما يمجد الطغاة والحمقى الدمويين من البشر، أو يتغنى بقدرة الجلاد على إيلام الضحية والتنكيل بها، لا أتخيل الأدب إلا في صف الفقراء والمظلومين وعاشقي الجمال، لذلك الشعراء الحقيقيون قد يكتبون القصائد للبنات الحزينات، والمراهقين التائهين، لكنهم لا يكتبون حرفًا واحدًا في مديح لص أو قاتل مهما تقلد من نياشين وأوسمة.
محمود درويش كان يرفض تسميته “شاعر الثورة الفلسطينية”، لأنه ببساطة كتب عن الإنسان والحب والمنفى والعيون العسلية والجدائل الغجرية، بوتَقة المبدع وحشره في زاوية ضيقة ثم وَسمه بمسميات وألقاب ليلزم نفسه بها، أن يفرض عليه الجمهور صوتًا ونمطًا في الكتابة بدعوى الحب والامتنان، أن يتدخل القارئ في ملابس الروائي وأكله وشربه ولون حبره، محملًا بمسلمات ونظريات وأفكار يريد أن يلزم الأخير بها، هنا تكمن الطامة الكبرى، والنهاية المأساوية لكل كُتاب ومبدعي العالم.
الظلم الكبير الذي يتعرض له كُتاب العربية، هو الحكم المسبق بحرق كتبهم وأفكارهم ومَنعها من النشر، بمجرد النظر إلى عنوان الكتاب أو الرواية، ليس من واجب الأديب أن يخرج للناس ويشرح لهم معاني ودلالات كل كلمة وسطر ونص، وإلا أصبح شغله الشاغل هو تشريح النصوص وكشف المستغلق والمستعصي على الفهم منها حسب الجنس والفوارق العمرية والاجتماعية للقراء، منصرفًا عن إنجاز مشاريعه الأدبية التي يطمح إلى تحقيقها.
المبدع ليس آلة، “اكتب قصيدة عن الوطن”، “اكتب قصة قصيرة عن موت فلان”، “اكتب ملحمة شعرية في تمجيد الديكتاتور”، لا يمكن أن نطالبه بمستوى إبداعي معين، مستحيل على أي كاتب في العالم أن يحافظ على نفس النسق الفني التصاعدي، ثمة إرهاقات وخيبات وسيكولوجيات مختلفة مثل أي إنسان، كما أنه غارق حتى الركبتين في عملية التجريب والمحاولة والتجديد، وبالتالي من الطبيعي أن يُخفق أو يفشل أو تمر به لحظات انتكاسة وتعب، فعملية الكتابة ليست سهلة، بل هي شغل جاد وعمل مرهق على اللغة والسرد والبناء الفني، يأكل من أعصاب ووقت وجهد المبدع دون رحمة.
ثمة شعراء يحكم عليهم بالإعدام لعنوان قصيدة أو كلمة في سطر شعري، القصيدة هي بنت الانفعال، اللحظة المسروقة من الوقت، حيث يتماهى الماضي والحاضر والمستقبل، الشاعر يكون في حالة انخطاف وغياب عن الوعي، هو ليس صيدلانيًا ليكتب لك كم حبة تأخذ في اليوم، وليس داعية ليهديك إلى الصراط المستقيم، هو بنصف عقل لحظة الكتابة، مجنون أو عاشق. الأنظمة الديكتاتورية والشعوب الخائفة من ذاتها ومن كل شيء، تلاحق وتحاسب المبدع على كل كلمة، تحت مسميات وشعارت غريبة وعجيبة.
نحتاج إلى قراءة النص الجمالي بقلوب مفعمة بالحب والرغبة، أن نقبل على الكتاب بشهية دون أفكار مسبقة أو مسلمات، قبل القراءة ثمة طقوس عشقية، وتدريبات على سعة الصدر وتفهم المكتوب حتى آخر كلمة، أما الذهاب إلى الكتاب وبأيدينا السكاكين وأدوات التجريح والتشهير، فهذا سينتج لنا كتابًا حقودين وقراءً أكثر حقدًا.