ما يحدث من تفاعلات وتطورات داخل جماعة الإخوان المسلمين لم يعد شأنًا داخليًا بعد أن أصبح السجال في الإعلام أحد مظاهر الأزمة، وهو أمر يبقى محمودًا في إطار التناول الموضوعي بعيدًا عن اتهام هذا الطرف أو ذاك، وتظل القراءات المختلفة للتفاعلات صحيحة في جانب من الجوانب وإن كانت لا تعبر عن كل الحقيقة وهذا ما يستدعي الحذر في التفسير؛ فالقراءات غير نهائية في كل الأحوال.
كيف نقرأ التطورات؟
من المهم لتقديم قراءة أقرب للتوازن للتطورات معرفة خلفيات وسياقات الأحداث على مدار 5 سنوات هي عمر الثورة والانقلاب، وهذا يستلزم عددًا من الأمور من أهمها دراسة فترة الثورة والحكم والسلبيات والإيجابيات والمراجعات المطلوبة على مستوى الخطابات والخطط والأداء والكوادر والأثر والنتائج ودراسة فترة ما بعد الانقلاب ومعرفة تفاصيل ما حدث مما لم تتم روايته أو توثيقه من أطرافه الأساسيين والذين أكثرهم غائبون، حيث كانت هناك فترات فراغ القيادة نتيجة الفض والظرف الأمني والمطاردات والاعتقالات والقتل وتغييب القيادات الأساسية بالقتل أوالاعتقال، وهؤلاء أطراف أساسية وشهادتهم على الأحداث غائبة ومهمة وهو ما جعل الجماعة لا تعمل في ظروف طبيعية، الأمر الذي يقتضي التثبت والتدقيق والتحقيق فيما ينقل عن أطراف غائبة وهم شهود أساسيون في المشهد – وبعضهم غيبه الموت – وعدم اعتماد رواية واحدة أو حتى ثلاث روايات للأحداث من خلال ما يصدر من بيانات أو تصريحات؛ ففي المشهد والأحداث روايات كثيرة لا يمكن الجزم بأيها أكثر صوابًا.
ويظل عدم الدخول في النوايا والتخوين والاتهام بالعمالة لجهة أو دولة أو جهاز أمني، والفصل بين الأفكار والأشخاص في التناول الموضوعي للأحداث والتطورات، من القيم الحاكمة لأي تناول للتفاعلات.
من النقاط المهمة التي ينبغي مراعاتها عدم المغالاة في تصدير الخلاف على أنه حول شرعية الإجراءات والقرارات المتخذة في الفترة الماضية لأنه خادع ويبسط الأمور، والأولى الحديث عن كفاءة الأداء حتى لمن أتوا بإجراءات شرعية ومؤسسية؛ فالذي فجر الأزمة هو خلل في الأداء قبل أن يكون خللًا في الإجراء.
أخيرًا فإن إدراك أن بعض الاستجابات جاءت نتيجة ضغوطات اللحظة والمرحلة وليس نتيجة نضج، بالإضافة إلى أهمية وجود دراسة متأنية ومعرفة دور الخارج في الأزمة (الانقلاب وسياساته القمعية – بعض الأطراف الإقليمية)، وكذلك إدراك حجم التغيير الذي حدث على كل المستويات وزيادة مساحة الوعي بما انعكس على حالة التدافع الفكري داخل الجماعه كلها أمور مهمة للفهم والتفسير.
توصيف الأزمة
هناك عدة توصيفات مهمة ينبغي أن تٌقرأ التطورات من خلالها وهي كلها تنفع للتفسير والقراءة منها الأساسي والفرعي ومنها المسببات والأعراض ومن أبرز تلك التوصيفات:
– حراك وتدافع فكري صحي بين رؤى مختلفة للأحداث، والأدوات الأهم في التعامل معها، ويشترك في ذلك ويتساوى المستويات القيادية والقواعد.
– خلاف بين جيلين ومرحلتين (جيل ما قبل الثورة – جيل ما بعد الثورة والانقلاب) على مستوى الأفكار وسرعة التفاعل وأدواته، والقول بأنه خلاف بين الشباب والشيوخ فقط فيه تبسيط، فكل رؤية لها أنصارها من الجيلين.
– أزمة مرحلة معقدة ومربكة ومتسارعة الأحداث تأثرت المؤسسة بها سلبًا وإيجابًا باعتبارها النواة الصلبة في الثورة والمجتمع.
– أزمة بعض القيادات التي لم تستوعب طبيعة المرحلة وما تستلزمه من استيعاب مرن وخلاق للأفكار والاختلاف، وهذه تركت تأثيراتها السلبية وأخذت من رصيد أغلب القيادات الذين ساهموا بشكل أو بآخر في الأزمة ولم يساهموا في الحل.
– أزمة لوائح وإجراءات وخطط وسياسات لم تستوعب طبيعة المرحلة ويتم تفسيرها بما يخدم كل طرف.
– أزمة قديمة وممتدة؛ فالخلل ليس وليد اللحظة بل هو نتيجة تراكمات ومراجعات يتم تأجيلها على مستوى الأفكار والأدبيات وعلى مستوى الأدوار والوظائف وعلى مستوى الوسائل والأدوات وعلى مستوى اللوائح والإجراءات وعلى مستوى الكوادر والقيادات.
الإيجابيات والفرص
هناك عدد من الإيجابيات والتي أسفرت عنها التفاعلات ويمكن أن نرصد منها الحرص من المجموع على متانة وتوحد الجسد الكبير للجماعة، كما أن زيادة الوعي يحد من التأثيرات السلبية ووجود بعض الكتل الوازنة داخل الجماعة تعصم من الانجرار حول أي رؤى مغالية أو مفرطة، بالإضافة إلى أن الاختلافات مهمة لعدم أحادية الرأي وإحداث التوازن الرشيد على مستوى بناء الرؤية والسياسات والمواقف والخطابات.
كيف يمكن إدارة الأزمة؟
يرى العديد من المراقبين أن المخرج بشكل إستراتيجي سيكون عبر عدد من الإجراءات من أهمها إشراك القاعدة العريضة في رسم صورة المستقبل وصياغة إستراتجيته وأي قفز فوق هذه اللبنة الأساس لن ينتج سوى حلول وقتية وهامشية وستظل الأزمة معه مستترة وهيكلية وستنال من دولاب العمل وتحد من مستويات الفاعلية، بالإضافة إلى القيام باستطلاعات رأي موسعة واستبيان لرأي الجموع حول قضايا من قبيل مستقبل الجماعة في التعاطي مع نظام الانقلاب وحسم المسار الثوري وآليات التصعيد وضوابطها مع تشكيل محاضن للتثقيف العصري حول تلك القضايا.
كما يجب تحديث الهياكل على كافة المستويات عبر انتخابات وتكريس ذلك النهج حتى تترسخ قيم التداول والقبول بالآخر والتعايش بقيم وضوابط المؤسسية مع تنوع الرؤى والاختلافات، إلى جانب تشكيل مجموعة إدارة أزمة تضم عناصر وخبرات تتسم بالرؤية وسعة الاطلاع والإحاطة الدقيقة بظروف الجماعة وفهم مناخات وآليات العمل داخلها، وأن تتنوع تخصصات تلك المجموعة لتشمل أبعاد ثقافية، سياسية، اجتماعية، نفسية وتربوية.
إن وضع رؤية وإستراتيجية ناجزة تضع حلولاً شاملة وجذرية ولا تتعامل مع المسألة على أنها مشكلة ظرفية ومحددة فالأمر في جوهره أبعد من ذلك، يعد من أهم ما يجب على الجماعة إنجازة الآن، وضرورة أن تكون الهيئة التمثيلية الأكبر صاحبة صلاحيات حقيقية، فمجلس شورى الجماعة ينبغي أن تكون له آليات واضحة في تقييم عمل مكتب الإرشاد تصل إلى حد سحب الثقة، كما ينبغي تشكيل لجان نوعية تتفرغ لمهام التطوير والتحديث ولا يشغلها دولاب العمل اليومي عن القيام بهذه المهام التي تعد من أهم واجبات الوقت ويتوقف على إنجازها بالشكل المناسب الكثير من استشرافات المستقبل.
الدروس المستفادة
يمكن رصد بعض الدروس المستفادة من التفاعلات والتي ينبغي على صانع القرار داخل الإخوان أخذها في الحسبان من أهمها تفعيل دور مجالس الشورى والجمعيات العمومية في صناعة القرار بما يتطلبه ذلك من صلاحيات ومواصفات لمجالس الشورى وعلاج أوجه القصور التي تمخضت عنها الأزمة في اللوائح خصوصًا ما يتعلق بملء الفراغ القيادي تحت أي ظرف.
لا يجب الانشغال كثيرًا بسؤال الشرعية مع من؟ بقدر السؤال عن الأداء والنتائج لأن الأزمة تقول بوضوح إن هناك ضعفًا في الأداء من طرفي الأزمة، وذلك بإيجاد رؤية وتقديرات سليمة للموقف وخطط وسياسات واضحة للمرحلة كفيلة بعلاج كثير من الخلل، لأن مسؤلية التصويب والنصح للجميع ولا ينبغي أن تكرس ظاهرة الأولتراس للأشخاص والأجنحة تحت أي مسمى فالجميع جنود للفكرة والرسالة.
الشيء الآخر هو ضرورة وجود مراكز أبحاث ومعلومات تساعد في صناعة القرار وتقدير الموقف بشكل علمي وتساعد على تفكيك الكيانات والدول لرسم الخرائط الجديدة للمنطقة والعالم فلا ينبغى الغفلة عن مخاطر التفكيك تحت أي دعاوى أو مبررات.
علاوة على ذلك، فإنه أصبح من الواضح أن القرارات الإدارية لا تحل مشكلات تتعلق بالأفكار التي تحتاج لقرار بالحوار والاستماع والنقاش وتقليب المسائل لإنضاج الرؤى والوصول إلى نقاط التقاء، مع مراعاة المستجدات والبيئة المحيطة محليًا وإقليميًا ودوليًا، وكذلك أفق للحركة والتي تعني الإجابة على سؤال إلى أين؟ وعدم الاكتفاء براوية واحدة للأحداث واعتماد توثيق محاضر المكاتب واللجان خصوصًا ما يتعلق منها بالقرارات المهمة حتى تكون مرجعًا للتحقيق عند ظهور الخلاف بين الأطراف.
إن مهمة الكيان هي العمل في الفضاء المجتمعي وليس الانكفاء على ذاته والحفاظ على وحدة الكيان من أجل الحفاظ على الفاعلية والدور، وليس لمجرد الوجود، كما أن القيادة يجب أن تظل للداخل ويجب أن يُعاد النظر في دور الجاليات وتفعيله بما يناسب المرحلة.
الأدوار والواجبات
أولًا: على المستوى الإستراتيجي
معرفة متطلبات قيادة اللحظة والمرحلة ومن ذلك قيادة تدير الاختلافات والتناقضات وتبني طرقًا للتواصل وجسورًا بين المتقاطعين أكثر من عملها على الجمع الإجباري، والتشخيص العلمي للأزمة بما يستدعية من معرفة الأسباب الفكرية والتربوية والسياسية والإعلامية للأزمة، بالإضافة إلى تحديد المسؤوليات عن تطورات الأزمة لكل الأطراف (الداخل – مكتب الخارج – الرابطة – التنظيم العالمي) وتحديد أدوارهم في الحل وعدم تأجيل المراجعات وملفات التطوير وإعطائها الأولوية والدعم اللازمين.
إن دراسة وإدراك طبيعة المرحلة التي تمر بها الأمة والوطن والجماعة وما يستدعيه ذلك من متطلبات وأدوار وخطط ورؤى وكوادر لن يتم إلا بإعادة النظر فيما يسمى بالثوابت والتمييز بين ما هو شرعي وأخلاقي وما هو مرحلي وظرفي يرتبط بظروف كل مرحلة.
ثانيًا: على المستوى المرحلي والآني
إن الإسراع بعلاج الشروخ النفسية التي أحدثتها الأزمة بعيدًا عن ضجيج الإعلام والمعارك الكلامية ولملمة الموقف والاصطفاف حول معارك المرحلة هو المحور الرئيسي في تلك المرحلة، وتوفير المعلومات الكاملة والموثقة للجمعيات العمومية والمكاتب الإدارية وعدم تقديم خطابات ورسائل سلبية ومتناقضة للقواعد بما يفاقم من المشكلة.
ويأتي ذلك بالتوقف عن إصدار أي بيانات من الأشخاص أو المكاتب لحين استجلاء كل الحقائق من مصادرها وأطرافها وعدم التعجل في ذلك وعدم تناول الخلافات على مستوى القيادات في الإعلام وعدم الانجرار وراء أي روايات ناقصة وغير مؤكدة للأحداث، كما ينبغي التوقف عن ترديد مقولات “الدعوة تنفي خبثها – دا مش وقته – التخوين – إلخ” لكل من له رأي مخالف داخل الجماعة والتزام أدب وأخلاقيات الحوار والخلاف والنصحية في تناول أوجه الخلل وعدم تناول أحد بالتجريح والإساءة.
إن التركيز على قضايا المرحلة (الانقلاب – المعتقلون والشهداء وأسرهم –المطاردون – الحراك الميداني – دعم ملفات الداخل) هو المفتاح الأساسي لإعادة الصف مرة أخرى كتلة واحدة، ويجب على الجماعة تهئية أفرادها لأي تغييرات على مستوى الأفكار والرؤى والمواقع، وتفعيل أدوار مجالس الشورى والجمعيات العمومية في تقديم الحلول وصناعة القرار.
وأخيرًا، وكما يقول الدكتور أسامة الأشقر: “نريد الحكماء الذين يتكلمون بحسابٍ ويعطون الرسائل بوعي ويفتحون مسارب الحوار ويضيقون مداخل الخلاف كما نحتاج إلى المفكرين الذين يضعون أمام الفرقاء أدوات الخلاف المباحة، وضوابط الحوار ومناهج النظر وطرائق الاستدلال، وكيفيات الاحتجاج، وصور المعارضة، ومواضع الاصطفافات وأزمنة الخلاف، وإذا لم يتحرك المفكرون الآن فقد خانوا أمانتهم، ولم يؤدوا زكاة معرفتهم”.