تقدم رئيس الحكومة البريطانية، الخميس 17 ديسمبر/ كانون أول الحالي، إلى أعضاء البرلمان، سواء في مجلس العموم أو اللوردات، بملخص لنتائج التقرير الذي سبق أن أمر بإعداده في إبريل/ نيسان من العام الماضي حول جماعة الإخوان المسلمين. رأس اللجنة التي أعدت التقرير سفير بريطانيا السابق في المملكة العربية السعودية، السير جون جنكنز، وضمت دبلوماسيين ورجال أمن واستخبارات.
ويعتقد أن اللجنة انتهت من عملها قبل شهور طويلة، ولكن ضغوطاً متعارضة، داخل جسم الحكومة والدولة البريطانية، ومن دول عربية صديقة لبريطانيا، أدت إلى تأجيل نشر التقرير إلى الخميس الماضي. صحيفة الغارديان البريطانية، التي تابعت التقرير منذ بدأ العمل على إعداده، وصفت نتائجه بأنها جاءت أكثر تشدداً مما كان يعتقد. ثمة عدد من المسائل الهامة التي تبرز في خلفية هذا التقرير، في السياق الذي أحاط بإعداده، وفي النتائج التي توصل إليها.
يتعلق أول هذه المسائل بعدد متواتر من التقارير الإعلامية، التي تستند إلى وثائق محققة، وتسريبات لا تقل أهمية من دوائر رسمية بريطانية، حول الدور الذي لعبته دولتان عربيتان خليجيتان في دفع كاميرون إلى تبني فكرة تقرير حول الإخوان المسلمين. بمعنى أن ليس هناك من مسوغ سياسي بريطاني أصلاً لكل هذا التمرين السياسي الغريب. بخلاف الحرب الصليبية التي تقودها دولة أو دولتان عربيتان ضد الإخوان المسلمين، فإن دولة غربية ما لم تتهم الإخوان مطلقاً بالإرهاب أو المساعدة على الإرهاب.
هذه جماعة ذات توجه إسلامي لا يخفى، تتواجد وتنشط داخل العالم الإسلامي وخارجه منذ عشرات العقود؛ وكما كل القوى السياسية في المشرق العربي – الإسلامي، شهدت تطوراً مستمراً في افكارها ورؤيتها السياسية. فلماذا يتوجب على الحكومة البريطانية، أو أي حكومة غربية أخرى، تشكيل لجنة طويلة، عريضة، وتحمل نفقات عمل هذه اللجنة طوال شهور، لإعداد تقرير حول الإخوان. لماذا لا تشكل بريطانيا لجنة لدراسة الجماعة الإسلامية الباكستانية، ذات الانتشار الملموس بين مسلمي بريطانيا من أبناء شبه القارة الهندية؟ أو حتى حزب بهاراتيا جناتا، الأوسع تأثيراً في أوساط الهنود البريطانيين من كل من الإخوان والجماعة الإسلامية، والمعروف بسجله الهندوسي – التمييزي العنيف؟ ولماذا، وقد بدأت الحكومة البريطانية دراسة التيارات السياسية في العالم، لا تشكل لجنة للتحقق من الخلفية الفكرية والسياسية لليمين النازي في بريطانيا وأوروبا، مثلاً؟
الحقيقة، أن عدد الأبحاث التي نشرها أكاديميون من حقول دراسات الشرق الأوسط وتاريخ الإسلام الحديث للإخوان المسلمين لا يمكن إحصاؤه. وقد تناولت هذه الأبحاث مختلف جوانب فكر وتاريخ وسياسات وتناقضات الإخوان، سواء في مصر أو خارجها. كما إن من المعروف أن الإخوان، باعتبارهم التيار السياسي الإسلامي الرئيس في مصر وعدد آخر من الدول العربية، محل اهتمام كبير للدبلوماسيين ورجال الاستخبارات البريطانيين. الحكومة البريطانية، باختصار، لم تكن بحاجة لهذا التقرير. ما ولد هذا التقرير كان خضوع حكومة كاميرون لابتزازات اقتصادية خارجية، ومحاولة التهرب من ضغوط عربية – خليجية طالبت بمنع الإخوان في بريطانيا. مدركاً عدم إمكانية إصدار قرار بمنع الإخوان، لجأ كاميرون إلى فكرة التقرير كمخرج من الضغوط وإرضاء الحلفاء العرب في الوقت نفسه.
ولأن هذا النهج كان من البداية محفوفاً بالتناقضات، لم يكن غريباً أن يأتي التقرير بنتائج فادحة التناقض. كان ديفيد كاميرون قال في توجيهه بتشكيل لجنة إعداد التقرير أن هدف المشروع هو توفير فهم أفضل للإخوان المسلمين. ولكن الواضح من ملخص التقرير الذي أعلنه كاميرون، وما سيؤسس عليه من سياسات، أن التقرير لا يمثل سوى إضافة جديدة إلى سوء الفهم البالغ الذي يشوب العلاقة بين الدول الغربية الرئيسية ومسلمي العالم.
لسبب ما، يبدو أن كاتبي التقرير حاولوا صياغته بلغة العلوم الاجتماعية، ربما لإضفاء شيء من المصداقية الحيادية على نتائجه. ولكن أي طالب مبتدىء لدراسات الشرق الأوسط يعرف أن قراءة التقرير لميراث سيد قطب واستعارة بعض جماعات العنف لجوانب من هذا الميراث، وموقف الإخوان منه، هي قراءة خاطئة تماماً. فبغض النظر عن الجدل حول مقولات قطب، ليس ثمة شك أن الإخوان، ومنذ منتصف السبعينات، كانوا أول من حاول الرد على التفسيرات الراديكالية لقطب، على بعض مقولاته ذات التداعيات المتعارضة مع التيار الرئيسي لميراث أهل السنة، وأول من تنصل من هذه المقولات. ولكن الواضح أن لا كاميرون ولا لجنته العتيدة سمع بكتاب الهضيبي «دعاة لا قضاة»، ولا بالدراسات المستفيضة التي أجريت في جامعات بريطانية على الكتاب والسياق الذي كتب فيه.
في نص آخر مدهش، قال معدو التقرير أن الانتماء للإخوان قد يكون مؤشراً محتملاً على التطرف. الحقيقة، بالطبع، أن عدد أعضاء الإخوان المسلمين الذين تركوا الجماعة وحملوا السلاح في صفوف الجماعات الإسلامية المسلحة، منذ بدأت موجة العنف الإسلامي بعد إجهاض عملية الانتقال الديمقراطي في الجزائر في مطلع التسعينات، يكاد لا يذكر. وإن كانت القاعدة وتنظيم الدولة هما المستهدف بمقولة التطرف، فالأرجح أن كلا التنظيمين لم يستطع تجنيد أي عدد يعتد به من الإخوان، سواء من بلدان العالم الإسلامي أو خارجها.
ولكن المقولة نفسها، بالرغم من وضعها في صيغة إنكليزية حذرة، تبدو بالغة الغرابة. ألا يمكن القول، طبقاً للمنطق الذي يبدو أن المقولة تستند إليه، أن نمط الحياة الغربية مؤشر محتمل على التطرف؛ طالما أن عدداً متزايداً من الشبان والشابات من الدول الغربية يلتحق بداعش وأخواتها؟ أما الغائب الحاضر في منطق مقولة «المؤشر المحتمل» فيتعلق بالتعامي المعيب للتقرير عن الحروب، مثل الحرب الأنكلو – أمريكية، بالغة الغباء على العراق، وعن أنظمة الاستبداد في العالم العربي والإسلامي، مثل تلك التي ضغطت على الحكومة البريطانية لوضع هذا التقرير. السلفية الجهادية، وكل ما ولدته من تنظيمات عنف، هي صنيعة الانقلاب في الجزائر، أنظمة مبارك والأسد والمالكي، والانقلاب على الديمقراطية وإرادة الشعب في مصر، التي حافظت بريطانيا ولم تزل على علاقات وثيقة معها.
لم يجد التقرير، كما كان متوقعاً، حالة لتنظيم إخواني مسلح سوى حركة حماس، التي تكررت الإشارة لها في الملخص الذي نشره رئيس الحكومة كاميرون. ولكن، وحتى في هذه الحالة، أخفق كاتبو التقرير في وضع الأشياء في سياقها الحقيقي. في فلسطين، ثمة حركة تحرر وطني، يخوضها، بالسلاح وبوسائل أخرى، كافة طبقات وشرائح الشعب الفلسطيني، منذ ما يقارب من القرن من الزمان. حماس لم تكن أول من حمل السلاح، ولا هي التنظيم الفلسطيني الوحيد الذي يحمل السلاح اليوم.
في خضم هذا النضال الطويل من أجل الوجود، حمل السلاح فلسطينيون ذوو توجه وطني، وفلسطينيون ذوو توجه قومي، وآخرون ذوو توجه ماركسي، تماماً كما الفلسطينيين الإسلاميين، مثل حماس. إثارة الشبهات حول الإخوان المسلمين لأن أحد أجنحتها حمل السلاح ضد مشروع احتلالي، أجنبي، استيطاني، توسعي، مثل إثارة الشبهات حول حزب المؤتمر الهندي لنضاله ضد الاحتلال البريطاني، وحزب المؤتمر الأفريقي لنضاله ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا. ما يجب أن يستدعي الاهتمام في حالة حماس هو الخلفية التحررية الوطنية وليس الخلفية الإخوانية. وإلا، فكان على واضعي التقرير أن يسألوا أنفسهم لماذا كان الإخوان الفلسطينيون، ضمن فروع الإخوان المتعددة، وحدهم من اضطر إلى حمل السلاح.
أحسن رئيس الحكومة البريطانية عندما أعلن أن حكومته لن تقوم بمنع الإخوان المسلمين. وليس من الواضح بعد كيف استطاع تبرير مثل هذه القرار لمن ضغطوا عليه من العرب للذهاب إلى هذا الطريق. ولكن قوله أن حكومته ستشدد الرقابة على نشاطات الإخوان داخل وخارج بريطانيا هو قول أقل ما يقال فيه أنه يعكس سياسة غير قابلة للفهم. كيف للحكومة البريطانية أن تتعهد نظاماً رقابياً على جماعة إسلامية، تقود حركة التحول الديمقراطي والحريات، وتنتشر في صفوف ملايين المسلمين في كافة أنحاء المشرق العربي – الإسلامي؟ وهل أصبحت الحكومة البريطانية وصية على نمط حياة وتفكير المسلمين؟