أعلنت الرياض عن تحالفها “الإسلامي” ، لمكافحة “الإرهاب”، وتحمَّست له مصر، وفي مقابل هذه “الحماسة” المصرية، أعاد الملك سلمان على التأكيد على دعمه للاقتصاد المصري المتداعي، بشكل يعالج جزئيًّا أهم مشكلتَيْن تواجهان الاقتصاد المصري المتداعي، وهما: تراجع الاحتياطي النقدي، وعجز الموازنة، من خلال ضخ استثمارات تقدَّر بقيمة 8 مليارات دولار، بالإضافة إلى ضمان احتياجات مصر من المواد البترولية، لمدة خمس سنوات قادمة.
وفي هذا الإطار، ثارت العديد من التساؤلات حول مدى قدرة مصر في هذه المرحلة على المشاركة الفاعلة في هذا التحالف، الذي لم تبدُ له أية ملامح عملية إلى الآن.
قبل مناقشة ذلك، ثَمَّة بعض التحفظات الموضوعية في صدد توصيف التحالف السعودي الجديد، يجب التأكيد عليها.
الأول تحفظ يخص توصيف التحالف الجديد الذي أعلنته الرياض؛ حيث هو ليس إسلاميًّا بالمعنى الشرعي أو السياسي، فهو لا يرفع راية الدين، ولا ينطلق من منطلقات شرعية كاملة الأركان، أما سياسيًّا وجيوسياسيًّا؛ فهو لا يضم كل العالم الإسلامي، بل إن الكثير من الدول المحسوبة على المذهب السُّنِّي، رفضت الانضمام إليه، ومن بينها دول معتبرة في عدد المسلمين فيها، مثل إندونيسيا وماليزيا وباكستان، بالإضافة إلى تركيا.
التحفظ الثاني، يخص مسألة “الإرهاب” الذي من المفترض أن يكافحه هذا التحالف، لو تمَّ له أن يكون، ويقوم بدوره؛ حيث إنه ليس هناك أي اتفاق، حتى بين الأطراف التي أعلنت اندماجها فيه، على تعريف الإرهاب، ولا جماعاته.
فلقد نشرت الصحف السعودية – على سبيل المثال – غداة الإعلان عن التحالف، خريطة للتنظيمات “التي تمثل تهديدًا للأمن القومي للأمة الإسلامية”، بموجب تصريح للجبير ومحمد بن سلمان ذكرا فيه أن التحالف لن يستهدف تنظيم “داعش” فقط، وإنما كل التنظيمات “الإرهابية”، وكان من بين التنظيمات المذكورة في هذه الخريطة، تنظيمات وجماعات تحكم في دول أخرى شملها التحالف، أو على الأقل شملتها أسماء الدول التي أعلن عنها كل من وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان، ووزير الخارجية عادل الجبير.
فالإخوان المسلمون، كانوا من ضمن هذه “الخريطة”، بينما الأحزاب والأطراف والقوى المحسوبة عليهم، أو تنتمي لهم بشكل مباشر، تحكم في المغرب، أو شريكة حكم في ليبيا، بموجب اتفاق “الصخيرات” الأخير، الذي رعته الأمم المتحدة، وثبته مجلس الأمن، كما أنهم على علاقات وثيقة بالحكومة القطرية، فيما قطر في داخل هذا التحالف.
في الإطار السابق، وهو لا ينفصل عن الموضوع الذي نحن بصدده؛ فإن التحالف الجديد ليست له ملامح إلى الآن، ولم يتم وضع أية خطط لتحركاته، ولا كيف سوف ينفذ أهدافه.
نعود هنا إلى التساؤلات السابقة بشأن مدى قدرة مصر على المشاركة بفاعلية فيه، وشكل ومستوى هذه المشاركة، وإلى أين سيتم توجيه السلاح، في ظل عدم قبول الدول التي تعاني من مشكلات ترتبط بقضية “الإرهاب”، أي تدخل عسكري خارجي في شؤونها، طالما أن فيها حكومات مستقرة، وأنظمة قائمة.
فالدول التي تعاني من مشكلة الإرهاب، ولا تبسط سيطرتها الكاملة على أراضيها، وتعاني من انقسامات، لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، وهي تحديدًا: ليبيا واليمن وسوريا، وحتى العراق؛ لا تدخل في نطاق هذه النوعية من الدول؛ حيث إن هناك حكومة واحدة في البلاد، تتحرك ضد التنظيمات الإرهابية المسلحة المتواجدة في هذا البلد، وسبق أن أعلنت رفضها لأي تدخل عسكري بري في العمليات الحالية ضد تنظيم “داعش”، غربي وشمال غربي العراق، حتى من جانب الأمريكيين.
ونفس المنطق ينطبق على باكستان أو نيجيريا؛ فهذه الدول لها حكوماتها المنتخبة، وأنظمتها وجيوشها الموحدة، كما أنه كيف سوف يتم التدخل عسكريًّا في هذه الدول، لمواجهة التنظيمات المسلحة الناشطة هناك، مثل “طالبان باكستان”، و”عسكر جنجويد” في باكستان، و”بوكو حرام” في نيجيريا؟..
إذًا، على المستوى السياسي القريب، لا يمكن للدولة المصرية، ولا حتى السعودية، التدخل بالكامل في شؤون هذه الدول، والعجز عن ذلك واضح، حتى في الحالة السورية، بالرغم من أن الأراضي السورية مستباحة الآن من كل القوات الجوية للعالم تقريبًا.
على المستوى العسكري المهني، هناك أكثر من شقٍّ يستحق النظر فيه، فأولاً لا يمكن لأي جيش في العالم أن يقول إنه قادرٌ على التدخل العسكري في بلد مثل باكستان، عجز جيش الدولة نفسه، وهو ليس بالجيش الضعيف أو الصغير، عن التصدي فيه للجماعات الإرهابية أو المجموعات المسلحة التي تواجه الدولة، ونفس المنطق في نيجيريا.
ويعود ذلك إلى أكثر من عامل، الأول هو بُعد المسافة، مما يجعل هناك حاجة إلى قواعد وأجراءات ومعدات استراتيجية مثل عابرات محيطات لحمل الجنود، أو الطائرات، ومقاتلات وقاذفات أرضية بعيدة المدى، وغير ذلك، وكلها أمور ليست في قدرة أي بلد، لا على المستوى الاقتصادي، أو القدرة العسكرية، فحتى الولايات المتحدة لم تستطع تحقيق نجاحات كبيرة لما تدخلت في العراق وأفغانستان.
كما أنه، وبالعودة إلى الجانب السياسي للأمر، بالرغم من أن الولايات المتحدة كانت تعلم علم اليقين أن مشكلاتها في أفغانستان بعد احتلاله في أكتوبر 2001م، تأتي من باكستان، لم تغامر لأسباب عسكرية، ولم تستطع لبواعث سياسية، أن تغزو هذا البلد، أو تتدخل فيه عسكريًّا، باستثناء عدد من الحالات التي قامت فيها طائرات أمريكية من دون طيار بقصف أهداف على الحدود، ولم تعترف بها واشنطن، لهذه البواعث السياسية المتعلقة بانتهاك حدود دولة ذات سيادة على أراضيها.
هذه التعقيدات أكبر بكثير في الحالة المصرية، فلا قدرات الجيش المصري، ولا قدرات الاقتصاد المصري، تجعل من مصر قادرة على الوصول إلى هذه الدول التي تعاني من آفة الإرهاب.
وحتى لو ملكت مصر الممكنات اللوجستية والاقتصادية التي تجعلها قادرة على ذلك؛ فإن الجيش نفسه لن يقبل ذلك، فالأمور خارجة عن إطاره العقيدي، والذي يتحرك في إطار مصالح الأمن القومي المصري، مثل حماية الحدود القريبة، والحدود البعيدة، مثل باب المندب وخليج عدن، أو التدخل المحدود لظروف طارئة، مثل حادثة مقتل 21 قبطيًّا في ليبيا؛ حيث كان من الضروري لاعتبارات تتعلق بالوضع الطائفي، أن يتدخل الجيش بالصورة التي تمت، من خلال عمليات قصف جوي، وتدخل بري محدود للغاية في سرت ودرنة.
كما أن ذلك يخالف عقيدة الجيش المصري على مستوى الوحدات المقاتلة، والمخطط الاستراتيجي بداخله، الذي لا يزال يعتبر إسرائيل هي العدو الأول والرئيسي له، ولا يرى إهدار الجهد والعتاد والتمويل، في أمور لا تتعلق بمهددات مباشرة للأمن القومي المصري.
وفي هذا، ووفق دراسات أمريكية وغربية عدة؛ فإن الجيش المصري، ليس كله قياداته؛ حيث إن هذه القيادات تعلم أنها غير قادرة على فرض رؤى سياسية تتجاوز كثيرًا عقيدة الجيش، على الوحدات المقاتلة المحترفة منه.
وبدا ذلك في حالة قطاع غزة، فبالرغم من كل الحشد الإعلامي في مصر ضد القطاع، وبالرغم من حالة العدائية التي تم تنميتها لدى الرأي العام فيما يخص الدور المزعوم لحركة “حماس”، وذراعها المسلح، كتائب القسَّام، في مشكلة الإرهاب في سيناء ووادي النيل، ووجود تفكير فعلي لدى بعض قيادات الجيش المصري للتدخل العسكري في القطاع للقضاء على هذا التهديد المزعوم؛ إلا أن فرض ذلك على الجيش؛ لم يكن ممكنًا بالمطلق، وظلت لهذه القيادات الداعمة للخيار العسكري المباشر في غزة، حدودها التي لا يمكن لها أن تتجاوزها.
الأمر الآخر المهم الذي سوف يحول دون مشاركة مصرية فاعلة في التحالف السعودي الجديد، حتى لو تم وضع خطط عملية له ولتحركاته، هو انشغال الجيش المصري بملفات السياسة والحكم وأمور اقتصادية وأمنية داخلية أخرى في مصر، تمنعه من أي خروج خارج الحدود، حتى لو بفاعلية محدودة، أو بقدرات رمزية.
فجهاز الشرطة للآن؛ لم يستعِد كامل طاقاته، ولا يستطيع في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها مصر، على القيام بدوره في الحفاظ على الجبهة الداخلية، وصيانة الأمن العام، ناهيكم عن الأمن السياسي، بما فيه الإرهاب.
كما لا تزال العلاقات متوترة للغاية بين قطاعات لا بأس بها من الشعب، مع الشرطة المدنية، وهو ما يعوق قدرتها على العمل بالكفاءة والفاعلية اللازمة، وهو ما يلقي الكثير من الأعباء على أجهزة الأمن المدنية والعسكرية الأخرى، وعلى القوات المسلحة.
أضف لذلك، أن المهددات التي تتعرض لها مصر في الوقت الراهن، استثنائية، ولا تتناسب في طبيعتها مع الشرطة المدنية، أو أجهزة الأمن المدنية السيادية؛ حيث يبقى لابد من دون للقوات المسلحة المحترفة في التعامل مع الموقف في أماكن ومواقف معينة داخل مصر وعلى الحدود، لا يمكن للمخابرات العامة أو الشرطة المدنية التعامل معها، كما كان الحال أيام الاستقرار الأمني والسياسي النسبي الذي كانت تتمتع به مصر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك؛ حيث كانت مهام تأمين الحدود، وشبه جزيرة سيناء، تخضع في جانب كبير منها، للشرطة المدنية والمخابرات العامة، ولكن التطورات التي تلت الانقلاب في يوليو 2013م، خلقت مهددات غير تقليدية للأمن القومي المصري، حتَّمت المزيد من الاعتمادية على القوات المسلحة الميدانية.
بمعنىً آخر؛ فإن مصر نفسها تعاني من هذا الأمر، وبالتالي؛ يكون من باب أولى، ومنطقي أن تتصدى للمخاطر الإرهابية التي تواجهها، قبل أن تسعى إلى معالجتها في البلدان الأخرى.
المرض الأهم، من وجهة نظر بعض المحللين، والذي يحول دون مشاركة عسكرية مصرية فاعلة في الحرب على الإرهاب في دول أخرى، هو انشغال الجيش كمؤسسة عسكرية محترفة، بأمور تخرج عن نطاقه اختصاصه، وبالتالي فهي – في أبسط الامور – خارج نطاق أدواته، وبالتالي سوف يترتب على خوضه لها مشكلات، تؤثر عليه سلبًا، وتختصر من قدراته على القيام بأدواره الأصلية في صيانة الحدود والحفاظ على الأمن القومي للبلاد.
فانشغال الجيش بأمور السياسة والحكم، وكذلك بتدعيم مصالحه الاقتصادية، من خلال مشروعات كبرى وصغرى، وانشغال قادته بتأمين مصالحهم وتواجدهم في الأجهزة البيروقراطية والإعلامية، ورسم خريطة البرلمان، والتحكم فيه.
هذه الأمور، فوق أنها ليست من اختصاص القوات المسلحة، وبالتالي؛ فهي ليست مؤهلة للتعامل معها؛ فهي أدخلت الجيش في معادلة السياسة، وبات بالتالي طرفًا وهدفًا في صراعات سياسية، أدت إلى النيل من صورته وهيبة المؤسسة، وأخذت من موارده الكثير، وهو بطبيعة الحال، أحد مهددات الأمن القومي التي لا يتحسب لها أحد.
إذًا، في الأخير؛ حتى لو اعتمدت الرياض خطة واضحة سياسية وعسكرية، للتحالف الجديد؛ سوف تبقى قدرة مصر محدودة للغاية على الانخراط فيه، إلا فيما يتعلق بدعمه سياسيًّا فقط، أما في الجانب العسكري؛ فلا يمكن في ظل هذه الاعتبارات أن يكون لمصر، أو لأي طرف آخر في الإقليم، قدرة على التصدي!