“من خبرتي الطويلة التي دامت 60 عاماً في قطاع النفط أحب أن أقول لكم إننا لا يمكن أن نعتمد على روسيا أو غيرها لمساعدتنا في رفع الأسعار” هكذا قال علي النعيمي وزير البترول السعودي عندما اجتمع وزراء منظمة البلدان المصدرة للبترول “أوبك” في العاصمة النمساوية فيينا في 27 نوفمبر / تشرين الثاني، حيث تقدمت فنزويلا والجزائر بمقترح يتضمن تخفيض إنتاج المنظمة بمقدار مليون ونصف برميل يومياً ويتولى وزير خارجية فنزويلا ومبعوثها إلى أوبك ” رافييل راميرز” بمهمة إقناع روسيا والمكسيك بتخفيض ال 500 ألف برميل الأخرى علماً أنّ إنتاج المنظمة يبلغ 30 مليون برميل.
المقترح جاء لإقناع النعيمي والوزراء الخليجيين بخفض الإنتاج لدعم الأسعار التي هبطت لأدنى مستوى في 4 سنوات حيث وصل سعر برميل النفط إلى نحو 34 دولار.
انتهى اجتماع أوبك برفض المقترح واستسلام الدول للأمر الواقع، وتم إقرار عودة إندونيسيا إلى المنظمة بعد انقطاع عنها منذ عام 2008 وعودة حصتها الإنتاجية البالغة مليون ونصف برميل يومياً.
وعليه فإن نتيجة الاجتماع كانت زيادة في الإنتاج مليون ونصف وأصبح سقف إنتاج المنظمة 31.5 مليون برميل يومياً.
بلغ أعلى سعر وصل إليه برميل النفط سنة 2014 نحو 115 دولار واليوم يظهر سعر برميل (نفط غرب تكساس) عند 38.06، في حين حققت الأسعار أدنى مستوى لها بالقرب من 34 دولار للبرميل حيث لم تشهد الأسواق النفطية هكذا أسعار منذ زمن طويل.
سعر برميل (نفط غرب تكساس) عقود مستقبلية تسليم فبراير 2016 ( رسم بياني لخمس دقائق)، وول ستريت جورنال
أي أنّ سعر برميل النفط عند أدنى مستوى له انخفض بنسبة 70% عن أعلى سعر حققه في عام 2014، هذا يعني أن الدول المصدّرة للنفط تحصل اليوم على ثلث السعر عن كل برميل تصدره وفقدت أو (خسرت )، ثلثي إيراداتها النفطية.
الرسم أعلاه يظهر أداء سعر برميل نفط غرب تكساس خلال عام 2015، وول ستريت جورنال
باستخدام أداة تحليلة ( Bollinger Bands) المبينة أدناه يتضح لنا أنَّ اتجاه السعر خلال ستة أشهر حتى شهر ديسمبر / كانون الأول هو تنازلي ويعتبر سعر 34.07 هو نقطة الدعم الرئيسية للسعر التي في حال اخترقها سيهبط إلى 30 دولار.
وول ستريت جورنال
الكلام اليوم عن تراجع الإيرادات النفطية في اقتصاديات الدول المنتجة للنفط، فخلال طفرة الأسعار حققت تلك الدول فوائض مالية ضخمة من جراء ارتفاع الأسعار حيث بلغ أعلى سعر للنفط في عام 2008 عند 147 دولار تقريباً، وبعد هذا التراجع الكبير في الأسعار سيظهر تأثير محسوس في اقتصاديات بعض الدول في الوقت الحالي بسبب رصيد احتياطياتها، ولكن المؤكد أن النتائج المالية لهذا العام ستكون مخيبة بكل المقايسس المالية، خصوصاً إذا بقيت الأسعار منخفضة على هذا النحو.
وبشكل تلقائي على كل الدول التي تعتمد على النفط كمصدر لإيراداتها خصوصاً دول الخليج عليها العمل على ترشيد النفقات، على وجه التحديد تلك التي توجه مبالغ ضخمة لخوض الحروب والتسلح مثل السعودية، وبالفعل توقع صندوق النقد الدولي في تقارير سابقة أن تسجل دول مجلس التعاون الخليجي عجزاً بالموازنات العامة قدره 145 مليار دولار عام 2015 وأكثر من 750 مليار دولار بين عامي 2015 و 2020 في حال استمرار الأسعار منخفضة على ما هي عليه الآن.
قدَّر صندوق النقد الدولي أن تسجل السعودية عجزاً مالياً حوالي 100 مليار دولار سنوياً، كما سسجلت الكويت أول عجز في الموازنة منذ 16 عاماً بمقدار 23.2 مليار دولار، ولحقتها قطر بعجز يقارب 6 مليار دولار.
الدكتور أنس السقا أستاذ الاقتصاد في كلية العلوم الإدارية في الكويت يرى أنّ اجتماع أوبك الأخير أخفق لإن “اشتراط مشاركة الدول خارج أوبك في الخفض أمر غير منطقي لاتحاد المنتجين فالهدف الرئيسي لاتحاد المنتجين هو الحفاظ على استقرار الأسعار لإن المنتجين من خارج الاتحاد ليسو أعضاءً فيه، بالتالي هم ليسو ملزمين بالمشاركة مع الاتحاد في تحمل نتائج توازن السوق والأسعار، وإلا فليترك الاتحاد السوق لقوى العرض والطلب وبالتالي تنتفي الحاجة لوجوده”
إذاً تسعى أوبك اليوم لإعادة التوازن للسوق النفطية وتحقيق الاستقرار في الأسعار مع الحفاظ على حصتها السوقية والتمسك بها وهذا فيما يبدو استراتيجية مدمرة حصيلتها “صفرية” بالنسبة للمنتجين.
وكنتيجة لهذه الاستراتيجية استفاد من هبوط الأسعار، الدول المستهلكة للنفط التي بدأت بتخزين احتياطيات نفطية لديها والاستمتاع بفرق الفاتورة بين ما كانت تدفعه وما ستدفعه الآن، ما يخفف عليها أعباء عجز الموازنة ويحسن من الميزان التجاري لها بانخفاض فاتورة الواردات عن الصادرات أضف إلى ذلك انخفاض أسعار المشتقات النفطية وما يرافقها من انخفاض في تكلفة كثير من المواد التي ترتبط إنتاجها بأحد مشتقات النقط.
إن الدول التي قررت رفع سقف الإنتاج بعد هبوط الأسعار لا تفكر بطريقة مستدامة، لإنها عملياً سوف تحصل على نفس الإيرادات ولكن بكمية إنتاج أكبر بالتالي فهي تهدر ثرواتها الطبيعية بأسعار منخفضة وتحرم الأجيال القادمة من حصتها في الثروة، لذلك فهي تعتمد سياسة اقتصادية غير رشيدة قد تظهر آثارها السلبية في المستقبل.
تتوقع أوبك أن ترتفع الأسعار في العام المقبل ويعود التوازن للأسواق من خلال ارتفاع الطلب على النفط المدعوم بتحسن مؤشرات النمو العالمية وعليه سيتم امتصاص الفائض من النفط في الأسواق، فتعود الأسعار للانتعاش من جديد.
إلا أن التفكير القائم على ارتفاع الأسعار في خضم جملة من التطورات التي تشهدها الدول المنتجة للنفط حول العالم فيه شيء من “القصور” لعدة أسباب لعلّ أهمها ما يلي:
- العراق ينتج بأقصى طاقة له حيث أضاف نحو مليون برميل يومياً ليصل إنتاجه إلى نحو 4.5 مليون برميل يومياً.
- إيران مفعمة بانتصار رفع العقوبات عنها وهي تستعد في بداية العام القادم لاستعادة حصتها السوقية التي انخفضت بعد فرض العقوبات عليها في عام 2012 إلى ما يقرب من مليون برميل بينما كانت تنتج نحو 4 مليون برميل يومياً.
- عودة الأطراف المتنازعة في ليبيا بعد اجتماع جنيف للعمل مجدداً يعني عودة إنتاج ليبيا النفطي إلى الأسواق العالمية، علماً أنَّها تنتج الآن قرابة 350 ألف برميل يوميا مقارنة ب 1.6 مليون بريمل قبل الثورة الليبية.
- ارتفاع الدولار وتراجع التجارة العالمية ورفع سعر الفائدة الأمريكية أدى إلى تباطؤ مؤشرات النمو العالمية، حيث تراجع أداء الاقتصاد الصيني المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي الذي يعاني من تباطؤ في النمو لم يشهده منذ ربع قرن.
هذه العوامل ستدفع نحو تغذية العرض في الأسواق أكثر في ظل انخفاض الطلب العالمي المتوقع مما يؤدي إلى الضغط على الأسعار بصورة أكبر من مستوياتها الحالية.
من أجل أن تحافظ منظمة أوبك على أعضائها وديمومتها يتوجب عليها أن تستوعب السوق بشكل جدي أكثر حيث يتراوح فائض العرض بين 2 – 3 مليون برميل يومياً يعني ما نسبته 10% تقريباً من الإنتاج اليومي لأوبك، وهذا الفائض بإمكان أوبك امتصاصه لو شاءت، علماً أن امتصاصه سيسهم في عودة الأسعار إلى حدود 60 دولار للبرميل.
عدم اتخاذ أوبك أي قرار لردع الأسعار عن الهبوط أكثر قد يدفع بعض الأعضاء للخروج من المنظمة، لفقد الثقة فيها وبقرارتها وهذه نتيجة خطيرة قد تودي بالمنطمة إلى التهلكة والتفكك كما تفكك من قبل اتحاد مصدري الصلب والقمح والألمنيوم والزنك والبوتاس وزيت الزيتون وغيرها.
في النهاية في ظل تمسك أوبك بحماية الحصص الإنتاجية للدول الأعضاء لديها فإنه من المتوقع أن تشهد الأسعار انخفاضات أكثر في المستقبل، وبالتالي يجدر بصنّاع السياسات المالية في الدول النفطية أن يستعدوا لمزيد من الضغط المالي في موازناتهم، والبحث على آليات تضمن تخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات غير النفطية على نحو لا يؤثر سلباً على التنمية ولا يعرّض احتياطياتها المتراكمة للاستنزاف ويضع سقف لارتفاع ديونها.