من المعروف أن الأنظمة السياسية الحاكمة سواء كانت أنظمة استبدادية قمعية أو ديمقراطية تسعى لتحقيق الأمن والاستقرار لهذا النظام حتى تستطيع إدارة شؤون الدولة دون عوائق، فالنظام الديكتاتوري يسعى لبسط الأمن عن طريق الأجهزة الأمنية وإنشاء العديد من أجهزة المخابرات وزرع الجواسيس في كل مكان لرصد كل التحركات التي قد تهدد النظام الحاكم أو تُحرك الجماهير أو تشعل حريق الثورات كل ذلك لضمان تحقيق الأمان والاستقرار للنظام حتى لو كان على حساب راحة المواطنين وأمنهم وحرياتهم.
أما الأنظمة الديموقراطية فهي أيضًا تسعى لتحقيق الأمان والاستقرار للنظام الحاكم ولكن عن طريق تحقيق رغبات المواطنين والعمل على تلبية حاجاتهم والتعامل الإيجابي مع المُدخلات التي تأتي من الجماهير لضمان الحصول على رضى المواطنين وبالتالي يكون النظام بعيدًا عن أي احتمالات لتعكير الأمن أو أي تحرك جماهيري يزعزع الاستقرار في النظام السياسي.
قليل من الناس توقعوا حصول الثورات في العالم العربي وخاصة الأنظمة الحاكمة التي كانت الثورات حدثًا مفاجئًا لها بكل معنى الكلمة بدليل أنها عجزت عن التعامل معها، فأدت الثورات إلى إسقاط بعض الأنظمة التي كانت تملك العديد من الأجهزة الاستخباراتية التي كانت تراقب حتى أحلام المواطنين لمعرفة آرائهم ومراقبة أفكارهم وأحلامهم ليتجنبوا حتى التفكير في إزاحة أو تغيير أو إصلاح النظام! وهذه الأنظمة صرفت ملايين الدولارات في شراء العديد من الوسائل التجسسية وخاصة في مجال الإنترنت لنشر الخوف في قلوب المواطنين وجعلهم يخافون حتى من إخوانهم وأصدقائهم وأقربائهم ولا يفكروا بالخروج عن الطاعة أو التغريد خارج السرب مهما تعرضوا للظلم والقمع والإهانة!
رغم جميع هذه المحاولات إلا أن هذه الأنظمة فشلت في توقع الثورات وكيفية التعامل معها بل اعترفت عناصر هذه الأجهزة الأمنية فيما بعد أن الثورات كانت حدثًا غير متوقع على الإطلاق وأقروا بالفشل في التنبؤ بحصول هذه الحركة الاجتماعية الكبيرة، ولكن كما يقول الدكتور سلمان العودة في كتاب أسئلة الثورة: “فالثورة لا يرتب لها أحد، ولا يخطط لها الناس، ولكنها تنفجر على حين غرة، حين تُسد طرق الإصلاح، وتوقف عمليات العدالة ويُمارس القمع”.
ولكن ليس من الصعوبة معرفة أسباب الثورة والتي لو تم إزالتها لما حصلت الثورات أصلاً، لأن الثورات دائمًا نتيجة لتراكم الكثير من المشاكل والأزمات والفساد الذي يسعى النظام لإخفائه أو تجميله، ولكن يشتعل كالبركان وينفجر فجأة دون أن ندرك أنها كانت تغلي و تُحضر نفسها قبل أن تنفجر على الجميع!
يقول الدكتور سلمان العودة “ليس هناك دعاة للثورة، القمع والظلم والفساد والتخلف والفقر وحدهم دعاة الثورة”.
جميع الأنظمة التي واجهت الثورات كانت أنظمة استبدادية تنشر الفقر والجهل والفساد بين المواطنين، وتحسب كل دعوات الإصلاح فتنة وخطر على الدولة وتواجه المعارضين والمصلحين بالسلاح والسجن والإبعاد والتخوين والإرهاب، وبالتالي يكون الخيار الأخير للمواطن هو الثورة ، فكما يقول أحد المفكرين “عندما تغلق الباب أمام المواطن للتغيير السلمي، فأنت تحرضه على القيام بالعنف في سبيل التغيير”، فالأنظمة هي التي تحرض الناس على الخروج عليها والتظاهر ضدها عن طريق أفعالها سواءً شعرت بذلك أم لم تشعر، وبالتالي ليس هناك حاجة لصرف الملايين على أجهزة التجسس وزرع الجواسيس بل مجرد صرف هذه الأموال لتحسين أحوال المواطنين وتلبية حاجاتهم الأساسية كافية لتأمين النظام الحاكم وضمان استمراره في الحكم باطمئنان في ظل قبول جماهيري.
النظام الإيراني السابق كان يمتلك أقوى رابع جهاز استخباري في العالم ورغم ذلك لم ينفعه هذا الجهاز من السقوط نتيجة لثورة شعبية، والأنظمة العربية التي سقطت بعد الثورات لم تتعلم من الدرس الإيراني مع نظام الشاه، فمتى تتعلم الأنظمة الحالية أن الأجهزة الاستخباراتية والجواسيس بإمكانها تأخير حصول الثورة ولكن لا يمكنها أن تمنع الثورات، وأن الطريقة الوحيدة لمنع الثورات هي إنهاء أسبابها من الفساد والظلم والإهانة والقمع والاستبداد.