(1) الدولة المُتـفسِّخة
إذ انتشر بمصر مصطلح “الدولة الرخوة” آواخر عهد مبارك، وانتقل الحديث إلى “الدولة العميقة” في سنيّ الثورة، أرى ملامح انتقالها إلى “دولة متفسخة”، تبدو حتى أجهزتها العميقة غير قادرة على كتم رائحة صراعٍ يزيد احتداماً على سلطة لم تبتْ مكتوبة ملامحها، ففور إعلان رئيس الأركان السابق، سامي عنان، نيته الترشح للرئاسة، انبرت أقلام السلطة تنهش في سيرته، حتى وجدنا ملفاً كاملاً عن حجم ثروته وفساده في إحدى الصُحف، لنقرأ بعدها أن الرجل تراجع أو أنه لم يحسم أمره، وفي ذات الوقت نشرٌ ونفيٌ متصلان عنْ دعمِ الجنرال شفيق له، لا تستطيع من تتابعهما أن تستبين الحقيقة من عدمها، غير أنك ترى رأيَ العين حجم الصراع على السلطة وعفنه، في مقالاتٍ كانت سترمي بأصحابها في سجون العسكر دهوراً لو أنها فقط كُتبت قبل عدة أشهر.
يتبدى التفسخ أيضاً في الصراع الذي لم تنطفأُ جذوته على إنتاج “النسخة الرسمية” من خطابِالثورة، إذ يبدو بعد 3 يوليو – أكثر من أي وقتٍ مضى – كيف يتبنى محسوبون على السُلطة خطابات متناقضة عن الثورة، يقول فريق منهم إن 25 يناير لم تكن سوى احتجاجات عملاء للإطاحة بزعيم قائد، أو في أفضل الأحوال: حراكٌ جماهيريٌ اخترقه مأجورون، محاولين السيطرة إذن بخطابهم ذاك على انتفاضة 30 يونيو وإخراجها في صورة الثورة الحقيقية، لا كامتدادٍ لثورة يناير. وهو ما حذى برئيسنا الخجول – عدلي منصور – في إحدى مرّات كلامِه النادرة على التأكيد على خطاب الامتداد الثوري، نافياً إهالة التراب على يناير.
(2) الطامّاتُ الكواشف
يتصلُ بذلك – وربما يصدرُ عنه – ما يُدار من قناعاتٍ مُؤسِسةٍ في كواليس الأجهزة الأمنية، فصحيفة النيورك تايمز صدّرت تقريراً مهماً عن تعيين الجنرال محمد فريد التهامي مديراً للمخابرات العامة (القرار صدرَ بتوقيع عدلي منصور، لكن من المُهين لذكاء القارىء القول أن أحداً غير المخابرات العامة والسيسي كانا أصحاب القرار)، التهامي هو ذاته الذي عُزلَ من منصبه كرئيس لهيئة الرقابة الإدارية بعد تسريبات عن امتناعه التحقيق في قضايا فساد عصر مبارك (عينّه مبارك في ذلك المنصب منذ 2004، وتم التجديد له خمسُ مرّات) ووقوفه – ليس عاجزاً – بل حائلاً دون كشفها وفتح ملفاتها. (الاتهامات صدرت عن ضابط مستقيل من الجهاز، وتم وقف التحقيق فيها، رغم خطورتها، وعندنا كذلك ما تحدث به رئيس الهيئة الجديداللواء محمد عمر وهبي عن تواطؤ الجهاز أثناء عصر مبارك مع أساطين الفساد، بينما تقل حصيلة ما استردته الدولة من أموالها بعد ثلاث سنوات من الثورة عن 2 مليار دولار، ويُقال إن التهامي بات ثلاثة أيام بلياليهن في هلعٍ في مكتبه لجمع أوراقه بنفسه).
الجدير بالذكر في هذا الصددِ وما تورده الصحيفة أيضاً أن تهامي (66 عاما)، كان مديراً للمخابرات الحربية، وبالتالي أستاذا للسيسي (58 عاماً)، وهو ما يثير تساؤلات جمّة عن حجم التعاون / الصراع المفترض بين جهازين للمخابرات (الحربية والعامة) عُرِفا بالتنافس الدائم (كان عمر سليمان أيضا مديرا للمخابرات الحربية قبل أن يصبح مديرا للمخابرات العامة)، ومدى سيطرة توجهات كلٍ منهما على سياسات الدولة حالياً، في ظلِّ غياب الرأس. فالمعروف إن المخابرات العامة كانت دائما أكثر دموية وعنفا مع الخصوم، وربما ذات كعبٍ أعلى في صُنع القرار. ومن المعروف أيضاً أن تعيين رئيسها يتبعُ مباشرةرئيسَ الجمهورية، إذ تحكمها علاقة تنافسية شديدة مع الجيش ومخابراته الحربية، فمن كان صاحبُ اليدِ الطولى في تعيين التهامي في ظل غياب رئيس جمهورية وتهلهل مؤسسة الرئاسة؟
لا يبتعد هذا كثيراً عن الصراع على إنتاج “خطاب” الثورة، وبالتالي مستقبل الحُكم في مصر. فليس خافياً أن عُمرْ سليمان (قائد المخابرات العامة وصديق مبارك المقرّب) ظلّ حتى منيتّه وفيّا لما تبنته المخابرات العامة من أساطير بُنيت على الترويج أن ثورة يناير كانت عملاً استخباراتيا – أو تم اختراقه –بالتنسيق مع الإخوان للإطاحة بنظام مبارك. ويشي من جلسوا مع السيسي (منذ أيام التحرير الأولى وبعد ذلك) أنه لم يكن يقلُ تحفظأً إزاء توصيف ما جرى بأنه ثورة، وأنه كان مقتنعا ربما بكونها انتفاضة ضد التوريث يجب أن تتوقف عند هذا الحد حتى لا تعرض الدولة للخطر. (لاحظ المفارقة – لسخرية القدر من الطاماتِ الكواشف – في تعيين جنرال متهم بالتستر على قضايا فسادٍ يشيب لهولها الولدان على رأس المخابرات العامة، وعدم اعتبار ذلك خطراً يُهدد الدولة).
بل يقول آخرون من ذوي الحظوة أن السيسي كمديرٍ للمخابرات الحربية تنبأ بذلك الحراك الشعبي. وما يُهمنا هُنا في هذا الصدد هو محضُ تسليط الضوء على ذلك التناقض في الخطابات الرسمية لثورة يناير إذ يبدو – بأقلِ الأوصاف حِدّة – أن تلك الأجهزة غارقة في الارتباكِ والتلعثم.
(3) نظرية الحاكم “الواجهة”
التدقيق في سياقات موازية كتلك، تتجاوز السياسية والأمن إلى الاجتماع والاقتصاد، تتيحُ رصدَ عدة ملامح تشي بأن السيسي – رغم عدم افتقاره للدهاء وبُعدِ النظر – يمكن أن يكون بمثابة واجهة تُدفع للسلطة بقدر ما هو فاعل أساسي فيها. ومناقشة ذلك هو هدف هذا المقال. وبعبارة أخرى: الدفع بالسيسي “كحاكم واجهة”، بُغيةَ الحفاظ على مكاسب البيروقراطيين والسياسيين – بغض النظر عن تأثير الدولة العميقة – الذين لا يريدون أن ينافسوا إلا أنفسهم وفق قواعدهم، في سلطوية لا تقل انغلاقاً وفاشية عن تلك التي قدمها الإسلاميون نموذجا في الحُكم.
في المجال السياسي مثلا، ولأنه لا أحد حالياً، كحزبٍ أو فرد، أقوى من الجنرال، باعترافهم أنفسهم، فربما يكون من الأفضل الدفع به كواجهة للحكم، يحدث هذا في وسائط موظفي البيروقراطية التي لم تتمرّس بعد على مفاهيم الحوكمة الرشيدة ولم تنل حقها في عدالة اجتماعية بينما يكون عدلها في حياة آمنة مُهددا، مثلما يحدث على مستويات أخرى تتضح – على سبيل المثال – في مجموعة من السياسيين البهلوانات الذين لا يريدون لأي أحزاب يمينية أن تتواجد في مصر مجدداً بشكل قانوني، بدلاً من السعي في تعديل الدستور والقانون بشكل محترم ليمهد البيئة لمنافسة ذات قواعد محترمة لا تحابي الأحزاب الكبيرة ذات التمويل والحظوة، ولا يغض الطرف عن شعارات دينية أو طائفية، ويعاقب المرشحين المتجاوزين بشطبهم لدورة انتخابية أو دورتين على سبيل المثال. فالحل الوحيد الذي تعرفه أحزاب البهلوانات هو الكلب البوليسي أمام لجنة الانتخابات لكي ينجح محمد أو محمدين ولا يخترقها ثالث.
(4)
في المجال الاقتصادي، لا يفوتُ من ادّعى معرفةً بالشأن المصريّ أن يُغفِل حجم تأييد ترشح السيسي في قنوات فضائية يسيطر عليها كبار رجال الأعمال في البلد، وهي التي كانت لسان مبارك الغليظ ويده الباطشة في محاولته اليائسة وأد حراك يناير الأعظم، وهو تأييد لا نحتاج ذكاءًا حاداً لنتوقع أن يتقلص بل أن يتحولّ للنقيض إذا ما هُددتْ مصالح هؤلاء الاقتصادية بإصلاحات جذرية حقيقية تهدف إلى إعادة توزيع الثروة وتجيب على سؤال الثورة الاقتصادي. (لا ننسى كيف أوقف رجل الأعمال محمد الأمين باسم يوسف بعد حلقةٍ واحدة من المسخرة على السيسي ومؤيديه، الأمين دخل مجال الإعلام فقط بعد الثورة ليمتلك 14 قناة، أمّا بداية ثرائه فيعود لما قيل أنه استثمار في الاستصلاح الزراعي في عهد سيء الذِكر يوسف والي).
الجدير بالذكر إن جهاز الرقابة الإدارية الذي من المفترض أن يواجه الفساد، تسيطر عليه المخابرات الحربية، ومن تقاليده أن يرشح وزير الدفاع اسماً لإدارته ويقوم رئيس الجمهورية بالتصديق على تعيينه، حتى رئيس الجهاز الأسبق اللواء هتلر طنطاوي تم وأد التحقيقات معه في تحقيقات بالكسب غير المشروعبعد الثورة، أما رجل الأعمال فريد خميس (الذي صعد نجمُه كأحد المستفيدين من الانفتاح الساداتي،لينضم في 2013 لقائمة أغنى 100 عربي لمجلّة الفوربس)، فهو من الذين وردت أسماؤهم في تستر الجهاز على مصائبهم. وكل هذا يعيدنا إلى السؤال غير البريء: منْ يُحركُ من؟
ولأن تدخل الجيش في السياسة إذا بدأ لا ينتهي سريعاً على الأغلب، فإن عامل آخر في نظرية “الحاكم الواجهة” يتمثل في كون البقاء في منصب وزير الدفاع دون تطلعات أكبر، يمثل معضلة بحد ذاتها، ذاك أنه إزاء الخوف من تقلبات أمزجةِ الشارع، خاصة في الأزمنة الثورية، ومن جهةٍ أخرى الخوف من تطلعات جنرالات آخرين قد يُكِّنوا طموحاً أكبر يُظهروه إذا ما سنحت الفرصة، يكون الأحرى الدفع بالجنرال تواً إلى حيث لا يعلوه أحد.
يتداخل ذلك العامل الأخير مع الشأنين الإقليمي والدولي، فإذا كان الثاني أمام الأضواء مُعارضاً للفكرة، ففي الكواليس يمكن التفاهم شيئاً فشيئاً، أمّا الدُول النفطية فتديرُ مصالحها بلا مُورابة، وهي التي ارتجفت رعباً لمرأى حاكم الدولة العربية الأكثر سكاناً في قفص المحكمة، تريد – هي أيضاً – خنق كل الأسئلة “المُعدِية” المتعلقة بالديموقراطية وتوزيع الثروة أملاً في الإجهاز على أية تجارب يمكن أن يكون لها أصداء إقليمية. وفي هذا السياق تحديداً لا يكون مُستغرباً تلك الأنباء عن ضغوط خليجية على السيسي للترشح للرئاسة مع وعودٍ بأنفاق من الدولارات تُبقي النظام حياً.
(5)
تلتحم تلك العوامل وتتضافر الجهود – دون اضطرارية القصد – لتجعل من السيسي “حاكماً” و “واجهة” في ذات الوقت، خاصة حين نأخذُ بالحسبان حجم الضعف والتفكك الذين صارتا إليهما الدولة المصرية من قبل وبعد الثورة، وهو ضعفٌ يُقرأ – أوضح ما يُقرأ – في شحوبِ بل انعدام تأثيرها الإقليمي من إيران إلى سوريا إلى السودان وإثيوبيا، ناهيك عن انقسام المجتمع انقساما أهلياً. لكن الواجهة الديناصورية لن تكفي على الأرجح، فتجربة الأعوام الثلاثة الماضية تقول إن أي نظام سيأتي دون أن يحاول الإجابة بمصداقية وجديّة عن أسئلة الثورة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فإن حظوظه في البقاء تظل محدوده. حتى وإن بدا متماسكا إلى حين. وهي قاعدة يبدو أن دُعاة “السيسي رئيسا” يتجاهلونها، رغم إن شيوخ الناصرية – تلك الأقلام الأكثر إلحاحاً في ترشح السيسي – ترصد بشكلدقيق كيف تتفكك الدولة المصرية إلى جزرٍ منعزلة بينما ينزف تحالف 30 يونيو شرعيته بتسارعٍ متزايد.
الأمر الذي يفوت هؤلاء إن المسألة ليست الأداء الحكومي فحسب، وإنما المنظومة ذاتها بأكملها، فالأجيال التي لعبت الفيفا من الأتاري السيجا حتى اهتزازت الكينكت في أجهزة الإكس بوكس، وشاهدت– فيما شاهدت – مايلي سايرس تمارس مراهقتها وتجرّب الحياة، وهي بعد كل ذلك ذاتُ الأجيال التي شاهدت – بل مارست – ثورة تخلع دكتاتوراً تجذّرت ضروبُ سيطرتِه، ثم شاهدت – بل ساهمت – في تسفيه الفاشية الدينية على صفحات فيس بوك وتويتر، ونزلت بمشايخ الفضائيات من عروشِ السماواتِ العُلى إلى مصافِ البشر الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، هذه الأجيال من الصعب أن تعود إلى بيوتها مجدداً مقتنعة أنه لم يكن بالأمكان أبدع مما كان.
(6)
ربما يترشح السيسي إذ تفتقر البلاد في لحظة الهيستريا الضامّة إلى منافسيين قادرين على حشد الجماهير، وبسبب تضافر جهود القصد واللاقصد في جعله حاكماً واجهة، لكن الواقع إن افتقار المنافسين لا يعني ملأ فراغ السلطة، فأسئلة كثيرة ستتعين الإجابة عنها وهي جميعا لا تمر بالضرورة عبر ترشح السيسي بل في طرقٍ مختلفة تماماً، بين تلك الأسئلة: الفساد أعلاه، وإصلاح الشرطة وإنقاذ الاقتصاد والعدالة الاجتماعية، وليس آخرها فتح المجال الاجتماعي للتداعي وتحريره من قبضة الأبوية والسلطة، سِيان.
بوسعِي أن أفهم نظرية “الحاكم الواجهة”، إذا تخيلنا الدولة كفولاذٍ إسطواني، والمجتمع كقلبٍ من الشبكات قاسية مرونتها، مُعقدة التداخل، لكنها في النهاية تعمل على تقوية جدار الإسطوانة وتصِلُ بين أجزائها، فتحميها من الانهيار من الداخل. ما أحدثته الثورة من شروخٍ وشقوق عديدة في جدار الإسطوانة تلك – ناهيك عن ما أحدثته السلطات المتعاقبة نفسها بضعفها وهُزالها – لا يمكن إصلاحه إلا عبر إعادة تشكيل تلك الشبكات الواصلة المعقدة، ولا يتم ذلك إلا عبْرَ نشاطات حرّة التفاعل تحدثُ في بيئة مواتية بعد اقتناع مكونّاتِها بجدوى السعيّ، يكون نتيجة ذلك في النهاية حماية الدولة أو – في الأقل – تقليص آثار تفككها، أمّا التفكير أنه بالإمكان إعادة ترميم الجدار من الخارج بواجهةٍ ديناصورية أو أكثر، فليس سوى الظن أو ما تهوى الأنفس.
******
في الحوار يسألُ الصحفيّ: متى يعود الترابط واللُحمة بين كل أبناء الشعب؟
ويجيبُ السيسي: اللُحمة والترابط والتكاتف تعود بأفكار مُبدعة وإدارة رشيدة.
….
نُشر المقال لأول مرة في موقع جدلية