في حديث لروبرت والدينجر في TED TALKS، وهو طبيب نفسي أمريكي ومحاضر في كلية الطب بجامعة هارفرد، تناول فيه الأسباب الرئيسية للسعادة في حياتنا والتي يقضي الناس أعمارهم بحثًا عنها في محاولات بائسة عديدة لكشفها، تحدث روبرت عما يبحث عنه الأجيال الجديدة في الحياة، ووجد نسبة كبيرة منهم يضعون الثراء هدفًا أول في حياتهم، أما البقية فيبحثون عن الشهرة، فما الذي يجعل الحياة سعيدة وصحية بالفعل في رأي روبرت؟
هل السعادة تكمن في العمل أكثر والحصول على مال بمعدل متزايد عامًا بعد عامٍ؟ بالطبع لم يُخلق البشر لدفع الفواتير فحسب، الأمر معقد بالنسبة للبشر في محاولة معرفة إجابة ذلك السؤال، كل ما يكوّنه البشر من معرفة يأتي من سؤالهم لبشر غيرهم عن تجاربهم الشخصية، الأمر الذي يتطلب من المرء أن يتذكر الماضي ليتعلم منه، وتذكر الماضي ليس سيئًا لهذه الدرجة، فإن الذكريات التي تكوّن حاضرنا الآن من الممكن أن تكون مصدر إلهامنا في الحاضر.
إذا أردنا أن نتخيل مراقبة حياة البشر ودراستها منذ المولد وحتى وصولهم للتسعينات في عمرهم فالأمر سيبدو غبيًا للبعض ومستحيًلا للبعض الآخر، إلا أن دكتور روبرت وفريقًا آخر من كلية الطب جامعة هارفرد استطاعوا بالفعل تكوين فريق خاص بدراسة تحوّلات وتغيّرات البشر خلال حياتهم من عمر المراهقة وحتى أصبحوا في الثمانينات والتسعينات من عمرهم، وهي الدراسة التي تعتبر من أطول الدراسات القائمة لمراقبة التغيرات النفسية للبالغين، فقد امتدت لـ 75 عامًا من المراقبة المتواصلة لـ 724 رجلًا، إلا أن العدد كان دائمًا في تناقص مستمر، نتيجة لفقدان بعضهم خلال التجربة أو استسلام البعض الآخر وعدم رغبته في الاستمرار، أو لعدم توفر التمويل المالي الخاص بالدراسة، إلا أن دكتور روبرت ومعه فريقه استمروا في العمل على تلك الدراسة حتى استطاعوا مراقبة 60% من العدد الأصلي للتجربة، حيث إنهم مازالوا على قيد الحياة و قصص حياتهم وحياة أولادهم وأحفادهم تحت مراقبة ذلك الفريق حتى الآن.
بدأت الدراسة عملها على فريقين من الرجال، الفريق الأول كان لطلاب في السنة الدراسية الثانية في جامعة هارفرد، وهي تلك الفرقة التي تخرجت عام 1930 لتخدم بعدها في الحرب العالمية الثانية، والفريق الثاني كان لصبيان من أفقر مناطق بوسطن، اختارهم الفريق بعناية لمرورهم بتجارب سيئة في بداية حياتهم، حيث كان بعضهم يعيش في ملاجئ بدون مياه.
استمرت الدراسة باستمرار حياة أولئك الصبيان، حيث تقدموا في العمر ليتحولوا من أطفال فقراء إلى عمال في المصانع ومحامين وأطباء، صار واحد منهم رئيسًا للولايات المتحدة، ومرّ آخرون بنوبات أمراض نفسية وإدمان المشروبات الكحولية.
لا تقوم الدراسة فقط على سؤال الرجال عن حياتهم، ولا عن طريق الاستفتاءات، حيث يقول روبرت بأنهم قابلوهم في بيوتهم، تحدثوا إليهم أثناء حياتهم اليومية، سمعوا أحاديثهم مع زوجاتهم عن مشاكلهم العائلية، وحصلوا على تحاليل طبية من أطبائهم وقاموا بإجراء أشعات على المخ لكل شخص فيهم لدراسة استجابتهم الدماغية والعصبية.
ما الذي تعلمه الفريق من الدراسة إذن؟
بعد استمرار الدراسة لأكثر من سبعة عقود، تعلم الفريق العديد من التجارب الحياتية المهمة من خلال آلاف الصفحات من المعلومات، ليستطيعوا الوصول إلى سر الحياة السعيدة، والمدهش في النتيجة أنها لم تكن تتعلق تمامًا بالشهرة أو الثروة، السر كان في الجملة التالية: “العلاقات الإنسانية الصحية تبقينا أسعد وأكثر صحة”.
ما تعلمه الفريق هو أثر العلاقات الاجتماعية على حياة الناس، وكانت النتيجة في أنه كلما كانت تلك العلاقات صحية وناجحة كلما كان الإنسان أكثر سعادة، وكلما كان الإنسان وحيدًا كلما كان أكثر انعزالًا وأقل استقرارًا وسعادة، الوحدة تقتل، حيث اكتشفت الدراسة بأن من هم على علاقات وطيدة وجيدة مع العائلة والأصدقاء يستمرون في الحياة لمدة أطول، ويكونون أكثر صحة على المستوى الجسدي، وأكثر استقرارًا على المستوى النفسي، أما عن نظائرهم ممن يفضلون الانعزال، فقد أثبتت الدراسة علميًا بأن وظائفهم الدماغية تفقد قدرتها على العمل بشكل كفء.
لا تكون الوحدة بالضرورة هي الانعزال عن البشر، بل من الممكن أن تكون وحيدًا وسط الجموع، أو وحيدًا في زواج تعيس، أو وحيدًا في علاقة غير صحية، كما أن الأمر لا يتعلق بعدد البشر حولك، وزيادة عدد الأصدقاء لديك، بل يتعلق بجودة تلك العلاقات بالنسبة للإنسان ومدى تأثيرهم الإيجابي عليك، تأثير العلاقات المدمرة على البشر أسوأ من الوحدة، فقد وصل الفريق إلى نتيجة أثبتوها بحقائق من تجارب الناس أنفسهم، وهي أن الاستمرار في زواج تعيس أسوأ من الطلاق.
حاولت الدراسة التنبؤ بمستقبل البشر بمراقبة أحوالهم الشخصية خلال الخمسينات من عمرهم، ومقارنتها بالنتائج التي حصلوا عليها عند وصول الشخصيات نفسها إلى الثمانينات من عمرهم، فوجدوا أن من تمتعوا بعلاقات اجتماعية صحية وجيدة في الخمسينات من عمرهم هم أنفسهم من يعيشون حياة سعيدة في الثمانينات الآن، لم يتم تحديد ذلك من وجهة نظر العُمر، بل بمقدار الرضا الذي كانوا يشعرون به في حياتهم عن أنفسهم وعن علاقتهم الاجتماعية، كما لاحظت الدراسة علاقة ذلك ومدى تأثيره بالألم الجسدي، فوجد الفريق بأن من هم سعداء في حياتهم لم يتأثروا بشدة بالألم الجسدي وكان أقل ألمًا بالنسبة إليهم، على عكس من كانوا تعساء في حياتهم فكانوا أكثر عرضة للألم الجسدي الذي كان تأثيره أكثر ألمًا عليهم.
لا تحمي العلاقات الصحية أجسادنا فقط، بل تحمي عقولنا كذلك، فقد اتضح للدارسين بأن من كانوا في علاقة صحية وتتمتع بالالتزام بين الطرفين، أي أن كلاً من الطرفين يعتمد على الآخر في لحظات الشدة، بأنهم يتمتعون بذاكرة أقوى وهم في عمر الثمانينات، على عكس غيرهم ممن لم يجدوا طرفًا في العلاقة مؤهلًا للاعتماد عليه في ظروف الشدة، فقد عانوا من فقدان للذاكرة أسرع عند تقدمهم في العُمر.
أظهرت تلك الدراسة أن السعادة في الحياة لا تتعلق بالمال، أو الشهرة، أو السعادة المؤقتة، بل الأمر يحتاج استمرارية مدى الحياة لتحقيق تلك السعادة المنشودة، السر يكمن في العلاقات الصحية القائمة على الالتزام.
أنهى روبرت حديثه باقتباس لـ “مارك تاوين” قائلًا: “الحياة قصيرة، لا وقت فيها للمشاحنات والاعتذارات وخيبات الأمل، بل هناك وقت فقط للحب، ولكن هذا الوقت ليس بكثير، فحاول أن تُحسن استغلاله”.