تهالك الورق من غلبة حبر الوشاية الذي انسكب على صفحة حركة حماس، والسبب عائد في ذلك للمفارقة الحاصلة في موقف حماس حال مقتل “الشبيح” سمير القنطار – الشبيح حتى نسمي الأشياء بمسمياتها – و”الشهيد” زهران علوش.
وتوضيحًا للمسألة أقول في البداية إنه لا توجد مفارقة حاصلة في الأصل، فالمفارقة عند المناطقة: إشكال ذهني بين قاعدتين، كما عرفها الفيلسوف الرياضي مارتن غاردنر، والسؤال هنا: هل نعي حماس للشبيح وتمريرها للشهيد “مفارقة”؟
الجواب ببساطة: لا، ووثوقية إجابتي بـ “لا” تنطلق من قاعدتين فلسفيتين بنيت عليهما حركة حماس وهما من وضع الشيخ العارف والمفكر أحمد ياسين وتنطق بهما روح ميثاق الحركة: القاعدة الأولى: حرمنا الدم الفلسطيني، والقاعدة الثانية: معركتنا داخل البلاد.
ولو أردنا فلسفة الفكرتين نقول في حق الأولى إن الشيخ الياسين كان يستبطن وعيًا ضمنيًا لسيكلوجية المقهورين، والتي تقتضي في أحد أهم تجلياتها أن يستدرج القاهر المقهور لساح ثانوي يغيب فيه معلم الساح الأولي، يشغله بالمفضول عن الفاضل، كما تحدث بذلك النفساني فرانكل وباولو فريري وأنريكيه دوسيل وفلاسفة ما بعد الكولونيالية.
وبذلك تكون هزيمة الكتلة الموحدة بدسيسة تفرق جماع القوم، وتبدأ تصفية الحسابات، ويثار غبار الكلمات، حتى تندرس معالم الصراع الأولي بثانويات الصراعات.
وللتاريخ، فإن الشهيد الوحيد الذي لم ترد حماس على اغتياله من بين دعائم مجاهديها “محيي الدين الشريف”، وذلك لأن تصفيته كانت في زنازين السلطة الفلسطينية.
وفي الوقت الذي كان أبو عمار يقول فيه في المؤتمرات الدولية: “في عنا في فلسطين قبائل الزولو”، قاصدًا بذلك حماس، كان الشيخ ياسين يقول في حضرة الصحفي المصري أحمد منصور: “لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين”، وفي استنطاق الفلسفة الثانية: “معركتنا داخل البلاد”، كان الشيخ الياسين يجرم عمليات الاغتيال بحق اليهود خارج الأراضي الفلسطينية، والتي كانت تتبناها بعض الجهات المشبوهة وغير المشبوهة، ومنطق الشيخ الياسين في ذلك إستراتيجي وديني وإعلامي.
فمن جهة إستراتيجية، تعدد الجبهات يشتت الرؤية، وبالتالي تشتت الجهود المبذولة لتحقيق الهدف الذي قامت لأجله حركة حماس أصلاً “تحرير فلسطين”.
ومن جهة دينية فإن مناط الصراع بيبنا وبين اليهود في فلسطين بسبب تعديهم على أراضينا، وليس لأنهم يهود، والانطلاق من العقيدة الإسلامية لا يعني المفاصلة الحدية القائمة على الاختلاف العقدي المفضية إلى المقاومة المسلحة، وإنما يعني باختصار، أن فلسطين وقف إسلامي، وعقيدتنا توجب علينا مصاولة كل من يعتدي على هذه الأرض، كائنًا من كان، لا باعتبار المعتدي، وإنما باعتبارها أرض وقف.
ومن جهة إعلامية، إذا قمنا بذلك، فإننا نصادق على الدعاية الإسرائيلية، والتي مفادها أن “يا يهود العالم اجتمعوا في أرض الميعاد، خشية من قتلكم على أيدي الإرهابيين في العالم”؛ وبذلك نخسر مناصرة قوم يمكنك التفاهم معهم والتراسل على رؤية قاصدة وإياهم والحياد خير، وبنفس الوقت سيكسب عدوك تعزيزًا ديموغرافيًا، يؤثر على منطوق الصراع ككل؛ لأجل ذلك كانت مسألة تحديد جغرافية الصراع أمرًا مهمًا في الحفاظ على حماس وحيويتها.
وحين طالت الثورات العربية، الأراضي السورية، وقعت حماس في موقف محرج بين خسارة داعم إستراتيجي وبين خسارة أخلاقية، توهن آخر ما تتمايز به عن أغيارك.
ووقعت حماس في ذبحة مالية ودبلوماسبة عنيفة تقتضي إعادة ترتيب أوراقها وتدوير حلفائها مرة أخرى وذلك نتيجة تغليبها روح الأخلاق على منطق التحالفات، وحينها انسحبت حماس من سوريا، ونقضت عرى التحالفات القديمة عروة عروة.
ما أريد قوله في الختام أن حماس حركة فلسطينية إسلامية صرفة، وتشابكها مع غيرها يكون من منظار القضية الفلسطينية، ومصلحة القضية الفلسطينية، وكل زجٍ لحركة حماس في آتون حروب الطوائف الدائرة رحاها في أرض العرب، تصفية لحماس وللقضية التي جاءت مدافعة عنها.