لا يمكن النظر إلى الموازنة العامة على أنها مجرد وثيقة تعكس الخطة المالية للحكومة، بل هي أداة أساسية وربما الأداة الأهم لإنقاذ البلد من التفكك الكامل، لاسيما بعد غياب السيطرة العسكرية عن مساحات كبيرة ومحافظات بأكملها، فالمال بات مصدر السلطة الأهم لدى الجهاز الحكومي الذي يوظف ما يزيد عن 3 ملايين يشكّلون مع أسرهم نسبة مرتفعة تصل إلى قرابة 50% من إجمالي السكان، أي أن الموازنة تعد مصدر الدخل للنسبة الأكبر من السكان.
لقد ورثت الموازنة العامة عن النظام السباق عبئًا كبيرًا تمثل في جيش الموظفين والمتقاعدين الذي تكون نتيجة هيمنة الدولة على مفاصل الحياة العامة وضعف دور القطاع الخاص، يضاف إليه عبء ديموغرافي يتمثل في ارتفاع نسبة الشباب وصغار السن الذين لا يتسع القطاع الخاص لاستيعابهم بوصفهم قوة عمل، ولا يجدون أفضل من الوظيفة الحكومية لتأمين معيشتهم، وفوق ذلك كله هناك ثلاث عشرة سنة من الحصار الاقتصادي الذي خلف وراءه نقصًا حادًا في المرافق والمؤسسات الخدمية من مدارس ومستشفيات وبنى تحتية مقارنة بالنمو السكاني خلال هذه الفترة؛ ما فرض على الحكومات بعد 2003 العمل على ردم الفجوة بين الحاجة والمتاح من هذه الخدمات، وإذا أضفنا إلى هذه الأعباء عوامل ضعف الكفاءات الإدارية والتخطيطية وهشاشة أجهزة الرقابة المحاسبية والاقتصادية وغيرها من أسباب ازدهار الفساد وهدر المال العام يمكننا تفسير إخفاق الحكومات بعد 2003 في تحقيق خطوات فاعلة باتجاه التنمية الاقتصادية للبلد.
إن موازنة 2015 تعطي صورة واضحة عن حجم التبعات التي ورثتها الحكومة الحالية عن النظام السابق بسبب هيمنة القطاع العام على الحياة الاقتصادية، إذ يتضح من هذه الميزانية أن ما يقارب 64% منها هو نفقات جارية لتغطية الرواتب والمنح وفوائد القروض والمعاشات التقاعدية التي تستنزف وحدها حوالي 11 ترليون دينار أي ما يعادل حوالي 14% من النفقات الجارية في الميزانية.
نتيجة لذلك استأثرت وزارة المالية بحوالي 22% من النفقات الجارية، جل هذه النفقات تذهب إلى المتقاعدين المدنيين والعسكريين من منتسبي المؤسسة العسكرية في النظام السابق، تأتي بعدها وزارة الداخلية بنسبة 15% تقريبًا وذلك كونها المسؤولة عن إعادة الأمن المنهار مع انهيار النظام السابق، ثم التربية والدفاع والصحة والتجارة وجميع هذه القطعات ذا طابع خدمي لا يكاد يدر أي عائد اقتصادي مباشر على البلد، بل هي نفقات لتثبيت أركان نظام سياسي غير مستقر وتأمين رواتب للكوادر التربوية والصحية واستمرار للعمل بنظام البطاقة التموينية الموروث عن فترة الحصار الاقتصادي.
أما النفقات الاستثمارية فتتركز في قطاعي النفط والدفاع، إذ يستأثر الأول بما يزيد عن 11% من النفقات الاستثمارية، إذ يعد العراق واحد من البلدان القليلة التي لا تزال الحقول المطورة والمستثمرة فيه محدودة نسبة لما يملكه من احتياطي نفطي، وهذا يفرض زيادة نسبة الاستثمار النفطي، تليها وزارة الدفاع التي تستأثر بحوالي 8% من النفقات الاستثمارية التي تحتاجها الحكومة لاستيراد كميات ضخمة من السلاح الثقيل والمتوسط لمواجهة خطر تمدد داعش وطردها من اللأراضي العراقية المحتلة، تلتها الدوائر غير المرتبطة بوزارة، ثم الإدارات العامة والمحلية في المحافظات ثم الكهرباء والداخلية.
ويلاحظ أن قطعات مهمة مثل الزراعة والصناعة والمعادن لم تحظ إلا بنسبة ضئيلة من النفقات الاستثمارية، وهذا يعني أن العراق سيبقى معتمدًا في اقتصاده على النفط، رغم غناه بالثروات الزراعية والمعدنية، وسيبقى الفرد العراقي إما موظفًا حكوميًا أو تاجرًا أو حرفيًا بسيطًا، أما المزارعون والصناعيون فهم كانوا ومازالوا طبقة مهملة وغير مفعلة وليس لها تأثير يذكر في تنمية الاقتصاد العراقي، وتنويع مصادر دخله، وإخراجه من أسر الاعتماد على البترول والبترول فقط.
إن موازنة 2016 – كما ورد في النسخة المسربة عبر وسائل الإعلام – ليست أفضل حالاً إن لم تكن أسوأ بسبب العجز الكبير في الإيرادات وعدم كفاية الموارد المحلية لتغطية هذا العجز، لذا سيكون تمويل العجز من خلال الاقتراض من البنك الدولي وغيره من مؤسسات الإقراض الدولية، وإلى جانب التمويل بالعجز فقد تم خفض النفقات بشكل عام بنسبة 9.3% مقارنة بميزانية 2015 وقد شمل الخفض النفقات الاستثمارية، أما النفقات الجارية فقد شهدت ارتفاعًا في الغالب، حيث بلغت نسبة الخفض في النفقات الاستثمارية 32.6% مقابل زيادة في النفقات الجارية بنسبة 3.8%، ومع ذلك فقد شهدت دوائر ووزارات معينة ارتفاعًا ملحوظًا في النفقات الجارية في مقدمتها النفط، ورئاسة مجلس الوزراء، ومجلس القضاء الأعلى والتربية والوقف الشيعي، بينما شمل التخفيض مجلس الأمن الوطني بنسبة 30% والمجالس والدوائر المحلية بنسبة 14% والخارجية بنسبة 16% إلى جانب كل من الصحة والتجارة والداخلية.
أما النفقات الاستثمارية فمعظم البنود الأساسية انخفضت باستثناء كل من رئاسة مجلس الوزراء التي ازدادت نفقاتها الاستثمارية بنسبة غير طبيعية تقدر بـ 15.66 ضعفًا (من 40 مليار سنة 2015 إلى 666.48 مليار سنة 2016)، ووزارة الإعمار والإسكان التي ازدادت نفقاتها بنسبة 17%، ومن أكثر الدوائر والوزارات انخفاضًا في النفقات الاستثمارية وزارتي الدفاع والداخلية إذ انخفضت نفقاتهما الاستثمارية إلى أقل من الثلث مقارنة بسنة 2015، في الوقت الذي يستدعي الظرف الأمني مزيدًا من التسليح للأجهزة الأمنية والعسكرية.
إن التخفيضات الحاصلة في الموازنة العامة تعني خفض مساهمة الإنفاق الحكومي في توليد الدخل القومي، وذلك يمثل من الناحية الاقتصادية التقليدية سياسة انكماشية تؤدي إلى مزيد من الركود الاقتصادي الذي تزدهر فيه البطالة وينخفض فيه الطلب وتضعف الأعمال وينخفض سعر الفائدة ويزداد الطلب على النقود لأغراض الاكتناز وتنخفض فيه قيمة الأصول المادية والمالية الأخرى غير النقود في مقدمتها العقارات.
ومن الناحية الاجتماعية سيرتفع مستوى الفقر وهذا يمكن أن ينعكس على الوضع الأمني سلبًا، أما من ناحية الميزان التجاري فسوف تشهد البلاد انخفاضًا ملحوظًا في حجم الاستيرادات لاسيما السلع المعمرة كالسيارات والأجهزة الكهربائية، وسيكون لفئة الموظفين والمتقاعدين دور مهم في تحفيز طلب السوق وخلق الأعمال نظرًا للزيادة في النفقات الجارية التي تشكل الرواتب الجزء الأهم فيها.
يبقى التحدي الأهم أمام هذه الموازنة هو التمويل.. فهل سيبقى سعر النفط عند مستوى 45 دولارًا للبرميل كما افترضت الميزانية؟ وهل سينجح العراق في تأمين العجز من خلال الاقتراض من البنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى؟ وإلى أي مدى ستتدخل الجهات الخارجية المقدمة للقرض في سياسة الدولة الاقتصادية؟ وما هو تأثير هذا التدخل على الفرد والمجتمع العراقي؟ تبقى الإجابة مرهونة بالإدارة الحكومية من جهة وظروف السوق الاقتصادية لاسيما سعر برميل النفط من جهة أخرى.