المنطقة تجلس على برميل بارود، صوت الرصاص يدوي في كل مكان من بيروت الى دمشق فتركيا والعراق الجريح، أرض الكنانة لازالت تداوي الجرح تلو الآخر، وبلاد بن خلدون تدخل النفق المظلم اما بلاد عمر المختار فقد طواها النسيان وربما قد تكون دويلات ولو بعد حين.
اجتمع القادة في نيويورك واتجهت الانظار نحو روحاني واوباما وكثرت التكهنات، والشائعات،وصار الاعلام يدقق في كل صغيرة وكبيرة،لا يهمنا أن أوباما اتصل بروحاني لمدة 15 دقيقة ولا رسائل المجاملة التي مرت من هنا وهناك،بل الاهم هو ما يجري على الارض.
في اجتماع الخمسة زائد واحد الاسبوع الماضي ، تهافت وزراء خارجية الدول الاوروبية للقاء وزير خارجية ايران، اذن هناك مؤشرات ومبادرات هنا وهناك،آخرها أن بريطانيا أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، حيث عينت لندن “قائما بالاعمال غير مقيم” في عاصمة بلاد الفرس طهران.
ايران من جانبها تشعر بالحاجة الماسة للخروج من عنق الزجاجة وإنهاء الحصار الاقتصادي عليها،في حين يرى الغرب وعلى راسهم امريكا ضرورة الدخول الى ايران واحتوائها واستعادة اسواقها والتنقيب عن غازها ونفطها،ولم لا احداث كوة في جدار التحالف السوري الايراني والروسي .
هناك عدة عوامل ساهمت في الوصول الى هذه الوضعية الشبيهة بشهر العسل الغير مسبوق في تاريخ علاقات ايران “الثورة” والغرب،ومن ضمنها :
تراجع النفوذ الامريكي السعودي في المنطقة بتنحي مبارك، ودعم جماعة الاخوان المسلمين،وكذا المواقف الضعيفة والمترددة في الملف السوري،وصمود الدولة السورية، والانفتاح على روسيا وهذه كلها عوامل صبت في مصلحة تزايد النفوذ الايراني وتقوية موقعها التفاوضي في الملف النووي الايراني او حتى في باقي الملفات.
وهناك عوامل تتعلق بايران نفسها، وتتمثل في الثبات والصلابة الذي تميزت بهما القيادة الايرانية بخصوص مطالبها وحقها في انتاج طاقة نووية سلمية، والدعم السخي لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين الذي كان بمثابة الورقة الثانية التي تضغط بها طهران على الغرب وحلفائه.
اذن “فالشيطان الاكبر” وحلفاؤه وصلوا الى قناعة مفادها ان ملفات المنطقة وصلت الى درجة من التشبيك لا يمكن إطلاقا أن تحل جميع الملفات دفعة واحدة ،بل يجب حل كل ملف على حدة ودون ربطها ببعضها البعض، وأن الذهاب نحو مزيد من الضغوط يعني الذهاب بالمنطقة نحو المجهول، ستنهار معه العديد من الدول وعلى راسها ربما “اسرائيل”.
اسرائيل تعي جيدا أن الاتفاق بين روحاني واوباما قد تجاوز في عناصره المفصلية الملف النووي، ووصل الى حد الاعتراف بايران كقوة اقليمية فاعلة ووازنة ومؤثرة في جميع ملفات المنطقة، وذلك بعد سنوات من محاولة تحييدها، لذلك فلن نستغرب مستقبلا اذا سمعنا اسرائيل تدافع عن المذهب السني علنا وتهاجم الشيعة، فهي الفرصة التي لا تعوض بالنسبة للكيان الصهيوني، كي تكون بمثابة حامي الخليج تزامنا مع استعداد العم السام للخروج نحو الساحل الافريقي والشرق الاسيوي الذي تنتظره فيه معارك شرسة مع الجنس الاصفر.
اللوحة هكذا : نووي اسرائيل مقابل نووي ايران، والنووي الصهيوني افضل وارحم من النووي الشيعي، هذه معادلة حكام الرياض الحالية، فاسرائيل ستكون هي الحامي الجديد لمصالح وامن بعض العرب في االمنطقة، بل الاكثر من ذلك ،هناك فرضية تقول باحتمال قيام تحالف يهودي سني في مقابل تحالف شيعي مسيحي مشرقي، وهي الفرضية الاكثر ارعابا لانها تعني ببساطة حربا عالمية .
اذن فالغرب اقر بقوة ايران، وهذه الاخيرة اذعنت لضرورة الحوار وتخلت عن اللاءات التي لطالما حملها احمدي نجاد اينما حل وارتحل، وصار لابد لآية الله العظمى علي خامينئي من أن يجلس أمام الشيطان الاكبر الذي يبدو أنه مستعد للانحناء وإلا فإن مصيره هو الخروج المدوي من جنة الغاز في الشرق الاوسط.
هولاند: موسم الحج الى مكة
رفع العقوبات عن 50 مليار دولار من الارصدة المجمدة وكذا عن المعادن الثمينة من ذهب وماس …في مقابل أن تضمن طهران تقديم ما يثبت سلمية برنامجها النووي في خلال 6 أشهر،هذا بعض مما رشح في المفاوضات قبل أن يدخل الفرنسيون ويقلبوا الطاولة ويعيدوا خلط الاوراق.
“إن إيران لم تجلس على طاولة المفاوضات نتيجة ضغوط الحظر المفروض عليها, بل لأن الذين جلسوا على طاولة المفاوضات مع إيران وصلوا الى قناعة بأن فرض الحظر غير مجد ” هكذا قالها حسن روحاني، بعد أن فشلت مفاوضات جنيف في التوقيع على الوثيقة النهائية،وذلك بسبب تدخل فرنسا، التي ربما نابت عن السعودية في افشال التوقيع،حيث خرج نائب وزير خارجية فرنسا قائلا: لقد أعدنا المفاوضات بين الستة (5+1) وبين إيران إلى الطريق المسدود في جميع الاحوال فروحاني أكد أن إيران ماضية في تخصيب اليورانيوم.
الجولة القادمة من المفاوضات ستكون في العشرين من هذا الشهر،فهل سيتغير شئ خلال هذا الاسبوع،هل تراهن اسرائيل مثلا ان تتخلى ايران عن مواقفها تجاههها خلال هذا الاسبوع؟ ام ان نظام الرئيس السوري بشار الاسد سيسقط خلال هذا الاسبوع؟ام ربما ستقع تغييرات دراماتيكية في لبنان وسوريا بشكل يقلب موازين القوى لصالح السعودية وفرنسا ؟
في انتظار الجولة القادمة، لنتأمل اللوحة أو بعضا من اللوحة الموضوعة أمامنا ولنبدأ من إيران :
من اللافت للانتباه ما أوردته وكالة الانباء الايرانية حول عزم رجال الاعمال الايرانيين تخفيض مبادلاتهم الاقتصادية مع باريس، منتقدين الطابع الارتجالي وغير الناضج للقرار الفرنسي بعرقلة المفاوضات، وفي هذا المستوى يكفي أن نسوق مثالا حيا لحجم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين ايران وفرنسا :
إيران هي أهم سوق بالنسبة لشركة بوجو سيتروين بعد السوق الفرنسية،فمن أصل 3.5 مليون سيارة باعت الشركة 450000 سيارة في ايران وحدها، شركة PSA Peugeot Citroën تقر بان العقوبات المتعلقة بالتحويلات المالية المفروضة على ايران تسببت في خسائر فادحة لصناعة السيارات الفرنسية وللعمال الفرنسيين في هذا المجال، Peugeotعرفت انخفاضا ب 240.000 سيارة في النصف الاول من عام 2012، فايران هي الزبون الرئيسي لشركة “بوجو”،فمن اصل ثلاثة سيارات في ايران يجب ان تجد سيارة بوجو من بينها، الا ان هذه العقوبات ستجعل السيارات الاسيوية اكثر حظا في الحلول التدريجي محل الصناعة الفرنسية في هذا القطاع،.
فما هذا العمى الذي اصاب فرنسا، هل أصبح حكام الإليزي خاضعين كليا لرغبات اللوبي الصهيوني والمال السعودي؟؟؟سياسيا لا يمكن فهم القرار الفرنسي بعرقلة المفاوضات الا من جانب واحد اذن، هو ان فرنسا كانت تتحدث باسم اسرائيل وان فابيوس صار وزير خارجية اسرائيل،أو أنه لا يتقن السياقة في شوارع طهران.
لماذا أدار هولاند ظهره لثقافة موليير وأفكار فيكتور هيجو ومونتسكيو وروسو، واستبدل النبيذ الفرنسي الفاخر بكؤوس ساخنة من بول البعير، استبدل الحضارة الراقية والثقافة والفن والانفتاح بالبداوة والجهل والكبت ؟؟؟
هناك من يرى أن هذه الحركة من فابيوس هدفها استعراض اعلامي وسياسي امام الحزب الاشتراكي الحاكم في اسرائيل حيث سيقوم هولاند بزيارة الى اسرائيل الاسبوع المقبل ، أيضا قد يكون الهدف أيضا هو رد الصفعة للحليف الامريكي، الذي أهان فرنسا كثيرا في الملف السوري إبان التهديد بضرب سوريا حيث استبعدت فرنسا من كل الاجتماعات التحضيرية التي كان يعقدها لافروف وكيري.
هناك فرضية أخرى للسلوك الفرنسي الجانح هذا، وهي أن فرنسا تحاول استغلال فرصة وجود تنافر سعودي أمريكي لتحل محل واشنطن في إدارة ملفات الخليج بدءا من لبنان وقضية سلاح الحزب، القضية الفلسطينية و سوريا، بالاضافة الى عزم فرنسا توقيع عقود مع الرياض بقيمة 30 مليار دولار تهم مجالات الدفاع والبنى التحتية واللوجستيك بالاضافة الى بناء مفاعل نووي.
في نهاية المطاف، يدرك الغرب أن تكلفة الحوار مع إيران هي أقل بكثييير من تكلفة الحرب، وان سياسة قرع طبول الحرب لم تعد تجدي نفعا، بل ان ضررها صار اكثر من نفعها، ولا بد من التعاون مع ايران لحل جميع مشاكل المنطقة، التي تحولت الى حلبة تتناطح فيها الثيران الهائجة والابقار المجنونة