في السابع والعشرين من ديسمبر يقف الزمان في رأس كل غزّي، فهذا التاريخ الذي لا ينسى منذ أصبح ملطخًا بالأحمر في رزنامة التقويم قبل سبع سنوات، يعود من جديد كل عام ليملأ بالأسى ساعات هذا اليوم حيث بدأ قصف الاحتلال لمواقع في غزة وحتى نهايته بعد 23 يومًا.
في ذلك اليوم المأساوي من العام 2008 كنت جالسًا في مكتبي بجريدة الرسالة أحرر الأخبار والموضوعات الصحفية، وحينما دقت الساعة الحادية عشرة صباحًا وإذ بصوت الانفجارات يُدوّي من كل حدب وصوب فعلمت أن طبول الحرب على غزة قد دقت، ووصلتنا الأخبار أن المقرات الأمنية والحكومية قد ضربتها طائرات الاحتلال في دقيقة واحدة، خرجنا حينها مسرعين من مقر جريدتنا إلى مقر المشتل الأمني القريب لنتابع الحدث عن كثب، وما إن خرجت من مبنى المشتل حتى تم قصفه مرة أخرى واستشهد من كان فيه من الناس الذين كانوا يتفقدونه.
وفي طريقي إلى بيتي لأطمئن على أهلي حيث يعمل اثنان من أشقائي في الأجهزة الأمنية، رأيت الناس هائمين على وجوههم فعدد كبير من أبنائهم قد قضوا شهداءً، فضلاً عن استمرار القصف على كل شبر من أرض قطاع غزة.
وصلت بيتي واطمأننت على أفراد أسرتي، فأحد أشقائي كان قد خرج قبل دقائق من مقر الجوازات الذي أستشهد فيه العدد الأكبر من الجنود والضباط، وشقيقي الثاني الذي كان يعمل مرافقًا للوزير الشهيد سعيد صيام لم يكن حينها في دوامه لكنه أستشهد لاحقًا على أرض معركة أخرى.
المفاجأة أننا فجعنا باستشهاد عدد كبير من الأصدقاء والأصعب اغتيال العالم الشهيد الدكتور نزار ريان و15 من زوجاته وأبنائه، ذهبت لأصلي صلاة العصر في مسجد الخلفاء وإذ بعشرات الجثامين للشهداء مُسجية على أرضية المسجد للصلاة عليها ومن حينها حتى انتهاء العدوان الغاشم ونحن نصلي صلاة الجنازة في كل صلاة.
لقد بقيت تلك الحرب سنوات محفورة في ذاكرة الغزيين بمآسيها وفقدان أعز الناس فيها حتى جاءت حرب أقسى منها عام 2014، نتذكرها ونحن نعيش حربًا مستمرة، فحروبنا التي نذكرها ليست ذكريات ماضية، هي لغة الحاضر وهواجس القادم، في الوقت الذي تعاود فيه أذهان الغزّيين ذكريات حرب ماضية، تتخوف العيون من حرب مقبلة قد تكون الرابعة بعد 2008 و2012 و2014.
يذكر أن 27 ديسمبر 2008 شهد ارتكاب قوات الاحتلال جريمة جديدة بضرب المقار الأمنية للشرطة الفلسطينية إعلانًا لعدوان كبير على غزة استمر لـ22 يومًا، راح ضحيتها 1430 شهيدًا، من بينهم 926 رجلًا و412 طفلًا و111 امرأة و5450 جريحًا، كما أدت لتشريد 9000 شخص وتدمير 224 مسجدًا و23 مرفقًا صحيًا، و 181 مدرسة تابعة لوزارة التعليم العالي، و26 مدرسة للوكالة، و67 روضة أطفال، و4 جامعات وكليات، و42 مؤسسة تعمل في الخدمة الاجتماعية.
لقد بقينا لأشهر وسنوات بعد الحرب نسمع أن فلانًا من معارفنا كان قد استشهد في تلك الحرب، وفي ذات مرة بعد سنتين كنت مع أحد الأصدقاء في زيارة لمقابر الشهداء فقلت له “يا أخي زمان عن صاحبنا يونس الغندور من يوم ما رحل عن مخيم جباليا مع عائلته إلى مخيم الشاطئ لم نسمع عنه خبرًا”، فقال لي: “يونس استشهد في حرب الفرقان يا حبيبي”.
لقد تُركت غزة آنذاك تدافع عن نفسها وحيدة؛ فلم يقف معها من الأنظمة العربية والإسلامية إلا تركيا، وذلك رغم تحالفها مع كل من إسرائيل وأمريكا، حيث اتخذ أردوغان موقفًا مغايرًا تمامًا لموقف الإدارة الأمريكية، وقد عبرَّ عنه بقوله “إن بلاده لن تدير ظهرها لما يحدث لغزة وأطفالها، ولن تبقى صامتة ومكتوفة الأيدي على عدم تحقيق العدالة”.
وقد تحرك بقوة وعجل لحشد الدعم العربي لوقف العدوان الإسرائيلي الهمجي، إضافة لاتصالاته الدولية وتحركات وزير خارجيته الواسعة، وقال: “إن آهات القتلى في غزة لن تبقى في مكانها، وإنه لن يكون إلا مع المظلومين”، واعتبر أن مجازر إسرائيل في غزة لطخة سوداء على جبينها، وأن الإسرائيليين لن يفلتوا من محاكمة التاريخ، كانت التحركات التي قام بها أردوغان على المستويين العربي والدولي هي التي عجلت بوقف إطلاق النار، والانسحاب الإسرائيلي بعد 23 يومًا من العدوان.
في تلك الحرب بلغ الاندماج التركي في القضية الفلسطينية ذروته، فاجتاحت المظاهرات أرجاء تركيا، واحتشدت الجموع أمام القنصليات الأمريكية والإسرائيلية، بل وقاطعت تركيا “مؤتمر التعاون الاقتصادي والتنمية” الذي عقد في القدس بسبب حرب غزة.
كما أنه إبان الحرب وفي سابقة فريدة من نوعها، قام رئيس جامعة إسطنبول مسعود بارلاق، بطرد السفير الإسرائيلي من مقر رئاسة الجامعة، احتجاجًا على حرب الإبادة في غزة واصفًا تصرفات السفير الصهيوني بالمتغطرسة.
تصاعد الموقف ووصل ذروته إلى أعلى مستوى حين رأينا أردوغان يثور على سفاح الكيان الغاصب بيريز في منتدى دافوس الاقتصادي، ويدهش العالم أجمع.
ازداد الأمر حدة، وبلغت القطيعة مداها في أكتوبر 2009 عندما أعلنت تركيا إلغاء مناورات عسكرية كبيرة كانت ستُجرى على أرضها بعنوان “نسر الأناضول”، وبمشاركة الكيان الإسرائيلي ودول حلف الأطلسي وفي مقدمتها أمريكا، وذلك بسبب اشتراك الطائرات الصهيونية في المناورة، وقالت تركيا بوضوح: “لا نُريد مشاركة الطائرات التي قصفت الأطفال والنساء الأبرياء في غزة”.
رحم الله الشهداء.. ولا نامت أعين الجبناء.