مقدمة لا بد منها
حينما طُلب مني أن أكتب مقال عن ثورات الربيع العربي بعد أن مرت عليها خمس سنوات وسألت عن المساحة المتاحة كان الجواب عدد من الكلمات لا يتعدى الألف بأي حال، ظللت أفكر في زاوية التناول ولكن وجدت الأفكار تتدافع وتتداعى في آنٍ واحد، وفي النهاية إن ما سأكتبه في ذلك المقال ليس إلا إحالة إلى ضرورة أن يكون هناك مؤسسة تهتم بثورات الربيع العربي ومستقبلها، ومن ثم سيكون هذا المقال حديثًا على هامش المستقبل وليس في متنه وحديث عنه لا فيه، ربما كان ذلك مخرجًا للكتابة في الموضوع ولكنه في حقيقة الأمر أبعد من ذلك، دعوة حقيقية لتبني فكرة المستقبل فيما يتعلق بثورات الربيع العربي، هذا التبني لا بد أن يُترجم إلى كيانات مؤسسية وقضايا بحثية ستعين بالضرورة على التفكير بالمستقبل واستشرافه بما يليق به، وذلك عن طريق إنشاء مراكز للبحوث الإستراتيجية العلمية والمتخصصة، ومراصد معلومات ومعارف وأفكار، ومؤسسات لرصد خرائط الطاقات الثورية، ومراكز الدراسات المستقبلية في العلوم الإنسانية، ويكون من مهام هذه المراكز استقطاب الكفاءات لاستشراف مسارات التغيير ومتطلباتها.
دراسة المستقبل .. مخاطر ومزالق
الاستشراف عملية شاقة، تحفها مخاطر محاكمة الواقع الذي يتحكم بنا ويضغط علينا ويفرض علينا اعتباراته آنا ويقسرنا على إملاءاته أحيانًا، إلا أن هذه الضغوط يجب ألا تمنعنا من دراسة مشكلاته بغية تقويمها، الرصد والوصف ورفع الواقع كما هو عملية شاقة إلا أنها مطلوبة ولازمة وضرورية، فهم الواقع ودراسة قضاياه والوعي بموجبات تغييره وطرائق تقويمه عمليات بعضها من بعض، مهمة أساسية تهدف لإعادة صياغة معادلات الوعي والسعي وفقًا لمتطلبات الحاضر وضرورات المستقبل، وفي إطار فهم دقيق وعميق للثابت والمتغير والتعامل معهما وفهم موجبات العلاقة بينهما.
لكن يبقى الاستشراف فعلاً إيجابيًّا يحرك دواعي النقد والمراجعة ورصدًا متواصلاً للواقع، ربما يتحول إلى نقطة انطلاق باتجاه عملية التجديد الحقيقية والإصلاح الجذري الواجب، وموجبات التغيير وسننه المضطردة لإصلاح مساحات وساحات ومفاصل الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وتحقيق ترجمة واقعية لقيم تأسيسية ومقاصد مرعية تتمثل في منظومة قيمية دافعة وفاعلة تتمثل في الوحدة والحرية والمساواة والعدل والمواطنة والكرامة الإنسانية.
معادلة الإحباط الظاهر والأمل الكامن
عند التفكير بمستقبل الثورات العربية تحدث البعض أنه “بعد سنوات من تلك المسيرة المُحبطة لما سُمّي بـ (الربيع العربي)، تجاسر كثيرون، وبعضهم ممن سبق واحتفى به حدّ الهوس، فأطلقوا عليه الوصف الضد بالمقابل: (الخريف العربي)، على اعتبار أنه الفصل السياسي الذي لم يثمر في نظرهم إلا الحروب الأهلية والتمزق الاجتماعي والتناحر السياسي وسيادة منطق الفوضى واستشراء كل ذلك في مكان تشرق فيه شمس هذا الخريف/ الربيع”.
وضمن معادلة الاستبداد المتحكمة فإن “الأنظمة المستبدة أنتجت واقعًا كارثيًا محبطًا للجماهير إلى أقصى درجات الإحباط، ولكن هناك يقين بات لا يقل عن هذا اليقين وضوحًا، وهو أن موجات الغضب بعد أن تسنّمت السلطة لم تستطع حلّ المعضلة الاستبدادية، كما لم تستطع حل المعضلة التنموية والمعاشية التي هي محور التحدي، أقسى صور الإحباط تتمثل في أن تعود دول الربيع بعد خمس سنوات كاملة من الغضب الاحتجاجي المناهض للاستبداد إلى ما دون المربع الأول؛ فتتمنى الغالبية العظمى من جماهير الغضب عودة الاستبداد السابق بعد أن كانت تراه جحيمًا لا يُطاق، إنها دوامة يأس لا تبتلع الأحلام فحسب، وإنما تبتلع أيضًا إرادة التغيير، مع ما بقي من أحلام تائهة تلفها الحيرة.
سنكون محبطين غاية الإحباط إن تساوقنا مع هذه الرؤية الآنية المباشرة، ورأينا الواقع والممكن على ضوء الأحداث المتلاحقة في حدود انعكاساتها المباشرة، للبحث وسط هذه المحبطات عن أمل، فإن هذه الاحتجاجات الغاضبة فعّلت الوعي العربي في مسائل كثيرة لم يكن يتطرق إليها من قبل، وهو قادر على التغيير بصرف النظر عن طبيعة هذا التغيير، وكذلك طرح مسألة مقاومة الاستبداد على طاولة الفكر وعلى طاولة الفعل في آن، هذه الأجيال ستبني على هذه الدروس التي ستأخذ طريقها إلى العقل الجمعي مشاريعها التي تضع الإنسان على قائمة الاهتمام.
إن المنطقة مُقبلة على متغيّرات تبعث على الأمل رغم بروز بعض العراقيل التي تتمثل فيما يُسمى بالثورات المُضادة، هذه المواقف المضادة لثورات الربيع العربي لن تستمر والوقت ليس في صالحها وإنما في صالح مسارات تقدم ثورات الربيع العربي، فعل الثورات المضادة لم يؤتِ ثماره ولم يُكلل بالنجاح أمام صمود وقوة الثورات العربية الشعبيّة، غاية الأمر أن المنطقة مُقبلة على تغيير لا محالة وأن ما حدث من بروز لما أطلق عليه “الثورة المضادة” في العامين الماضيين لن يستمر أو يستقر.
الربيع العربي أحوال متراجعة وأحلام مشروعة
مقاربة مستقبلية أخرى تعتبر الربيع العربي احتجاجًا مدويًا ضد كل شيء؛ ضد فساد الشركات الغربية المقربة للأنظمة العربية التي تستغل موارد المنطقة الطبيعية، ضد الاحتلال الأجنبي، وضد مشاعر الخزي والعار التي كانت تنهال على كل من تسول له نفسه على الاعتقاد بأن لديه الحق في المقاومة، فالربيع العربي كان يتمحور بالكلمة السحرية “الحرية”، كانت الحرية لدى الجميع تعني التحرر من الظلم والعبودية والاستغلال والفساد والذل.
لماذا تم إجهاض الربيع العربي؟ ببساطة لأن الشرق الأوسط – الديمقراطي زيفًا وتزويرًا – يحمي بقاء الأنظمة العسكرية والطفيلية الخادمة لمصالح الغرب، والتي عملت على مدى عقود بلا هوادة للقضاء على أي مساحة صحية لتطوير المؤسسات المدنية التي يمكنها غرس ورعاية نمو القيم المدنية، فهذه الأنظمة المستبدة لا يمكنها أن تحكم وتستمر في ظل دولة المواطنة، بل أنها تحكم وتتحكم بدولة العبيد.
أعلن العديد من المفكرين بابتهاج أن ظاهرة الإسلام السياسي ماتت واندحرت أخيرًا بعد إزهاق حياة الربيع العربي، بناءً عليه وبدلًا من التفكير بالتحرر والحرية، أصبح جل التركيز الآن ينصب على محاربة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار والأمن، هذه الديباجة التي تستخدمها بلدان الاستبداد كوسيلة مشفرة، سرقت الثورات والتف عليها بمقولات إعلامية سابقة التجهيز مضخمة الآثار والمآلات، توارت أشواق الحرية وفعل الثورات، وتصدر المشهد محاربة الإرهاب ومشاهد الفوضى.
نعم رغم كل هذه الأحوال البائسة ستستأنف ملحمة ثورية قادمة؛ إنها معركة الأمل في مواجهة صناعات الفشل التي احترفها المستبدون، لأن أوهام الفزاعات التي تصطنعونها أو تغطونها بزيف أفعالكم أو زور خطابكم لم تعد تنطلي على وعي الثورات وأصحاب المصلحة فيها وفي تحقيق أهدافها وتكريس مكتسباتها.
تسويق ضبابية المستقبل.. منافقو الثورات
وهذه مقاربة تأسست على عقد جريدة “الاتحاد” الإماراتية منتداها الفكري السنوي عن “مستقبل ثورات الربيع العربي”، ويمكن القول إن الأوراق البحثية التي قُدِمت تجمعها جميعًا نظرة متشائمة إزاء مسارات تحول المشهد الثوري العربي الراهن، وقد أسس بعض الباحثين تشاؤمهم من المستقبل على أساس تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلدان الربيع العربي بعد الثورات التي قامت فيها، “إن ثورات الربيع العربي القصيرة يبدو أنها ستتحول إلى خريف عربي طويل!” هذا ما يؤكد عليه أحد الأكاديميين المتلونين مع حال الثورات.
وها هو يستخدم انتقائية وازدواجية معايير”هكذا لا نبالغ إذا قلنا في النهاية إنه بالنسبة لمصر على وجه الخصوص تحولت الثورة إلى فوضى عارمة، وانهارت قيم التراتبية الاجتماعية والوظيفية والإدارية، مما يشي بسيادة ظواهر الاختلال الاجتماعي وتدهور القيم وعدم الاستقرار السياسي”.
وفي النهاية، يمكن القول إن مستقبل الثورات العربية يحوطه الضباب الكثيف، هذا الأكاديمي الذي يتحدث عن الغموض هو ذاته الذي حاول أن يُجد له موضع قدم في الأدوار المرتبطة بالثورة يبشر الآن بالمستقبل الغائم والضباب، ضمن جوقة بدأت تروج لبعض ما تراه الثورة المضادة، ولكن هؤلاء لم يعد يحترمهم أهل الثورة، يسكّنونهم في خانة الأقنعة التي سقطت أو التي تعبت من السقوط، إنهم الذين نافقوا الثورة، ولكنهم كانوا في محضن الدولجية الآمن.
صناعة الأمل والإحياء الثوري ومستقبل الربيع العربي
على الرغم من أن عمليات الإحياء الثوري تتضمن جهدًا تراكميًا حتى فيما بعد نجاح الثورة في مواجهة الثورة المضادة، فإن استعادة الثورات العربية وحماية الثورة من الخصوم والأعداء لا يشكل نهاية الطرق في عملية الإحياء الثوري وإنما يكون ذلك بداية طريق لعملية تمكين حقيقية للثورة وأهدافها بحيث ينطلق لتطورات كافية وواضحة لعمليات الإصلاح الجذري للمؤسسات والهياكل والأبنية والعلاقات ضمن عملية تأمين وحماية الثورة على مدى أبعد.
إن هذا العمل والخروج مما يمكن تسميه “الرومانسيات” التي ارتبطت بالتعامل مع ثورة يناير يعد من الأولوية المهمة والأكيدة للتعامل مع الحالة الثورية بما تستأهله من إستراتيجيات وسياسيات وقدرات بما يمكن لهذه الثورة سواء بما يتعلق بضرورة مواجهة الثورة المضادة بكل أشكال وجودها فضلاً عن التعامل مع كل أدواتها ضمن خطة إستراتيجية متكاملة وكذا التعرف على السياقات الإقليمية والدولية والوقوف على معطياتها بما يحقق رؤية واضحة للتعامل مع تلك المعطيات بما يعظم استثمار الفرص فيه ويطوق وفق الإمكانات المتاحة عناصر الخطر والضرر الكامنة والقائمة فيه.
ولا شك أن أول الأمر يكون في الإجابة بطريقه نقدية واضحة على تساؤل من طبيعة مزدوجة: لماذا نجحت الثورة المضادة، ولماذا انحسرت الثورات العربية وتم حصارها ضمن قابليات مثلت بيئة مواتية للثورة المضادة أن تحقق أهدافها؟ وإذا كان الحال كذلك فما هي الإمكانات الحقيقية الواجب استثمارها في استعادة تلك الثورات باعتبار ذلك هدفًا ثوريًا إستراتيجيًا؟
إن هذه الأسئلة والإجابة عليها بما تمثله ضرورة في هذه اللحظة الثورية التي يجب تحويلها ليس فقط إلى حالة ثورية بل إلى “ملحمة” ممتدة ذات نفس طويل تعرف لحقيقة هذه الحالة الثورية ومتطلباتها الأكيدة استثمارًا لحالة الزخم الثوري من ناحية وقرب العهد بنا من ثورة يناير باعتبارها فرصة تاريخية هي وثورات الربيع العربي أعلنت فيها الشعوب عن وجودها وتأثيرها وصارت رقمًا لا يستهان به في معادلة التغيير يجب أن تفرض قوى التغيير وتستثمر بما يحقق أهداف الثورة: حماية ومكتسبات وأهداف.
إن هذا يعني ضمن ما يعني أن الثورة في حقيقتها، لا تعين في أيام أعقبها سقوط رأس النظام التي قامت عليه الثورة ولا يمكن أن يحتويها مكان ولا هي جولة استطاعت الثورة المضادة بأدواتها في الدولة العميقة وممارسة بعض قدراتها في حشد اصطنعته أجهزة أمنية شكلت رأس هذه الثورة المضادة وتحالفاتها الوثيقة التي جعلت من هذه الثورة هدفًا للتطويق والحصار والإجهاض، فقامت بكل عمل لتحقيق أهدافها تلك، وبررت بذلك انقلابات سافرة فاجرة متكاملة الأركان جعلته تتويجًا لعملها، وكأنها تخوض معركتها الأخيرة في هذا المقام، وأخرى استدرجت لما يشبه الحروب الأهلية وعسكرة الثورات مارس المستبد فيها حروب إبادة حقيقية.
ولكن هذا النصر الذي حققته قوى الثورة المضادة من دون فطنة الثورة والثوار إلى العمل المكافئ للحالة الثورية حفاظًا عليها وحماية لها لا يعد إلا خسارة من هذه الثورة لجولة تستنفر قوى الثورة الحقيقية لعمل موجة ثورية أكيدة تستكمل فيها ملحمتها الثورية بكل طاقاتها بلوغًا لأهدافها ومقصدها.
ومن الأهمية بمكان ونحن بصدد عمليات الإحياء الثوري أن نؤكد أن الخمس سنين قد أحدثوا تطورًا نوعيًا بصدد الإدراك الثوري، والذي جعلنا بحق نتعرف على خصوم هذه الثورة، وتعيين القوى التي تحاول إجهاض هذه الثورة حتي لو تزينت وقتًا ما بأزياء زائفة ادعت الثورة وتسربلت بلباسها، كما تعرفت قوى الثورة الحقيقة على طبيعة معاركها الحقيقية، خروجًا من حال الرومانسية الخادع المستند إلى حالة وجدانية وانفعالية فحسب، والتي وقعت فريسة لأوضاع مفتعلة ولحالة مفتعلة وللحظة مفتعلة، إن معرفة الميدان والمعركة في حقيقتهما ليس بالأمر الهين ولكن هو أول عمليات الإحياء الثوري في حالته الإدراكية.
يتكامل مع ذلك طاقة أخرى لا بد أن تمارس بكل ما أوتينا من قوة ضمن عملية مواجهة ذاتية تمارس بالقدر المطلوب والواجب، وتحرك كل مداخل ومسالك النقد الذاتي، للاعتبار الواجب لكل ما مر بنا من أحداث والوقوف عند الأيام الملتبسة لفك اختلاطها والتدليس بها لصناعة الفرقة بين رفقاء القوى الثورية.
إن هذه الحالة الجمعية الواعية بضرورات النقد الذاتي هي القادرة مع حسن النوايا وإخلاص الأفعال لمصلحة الثورة أن تتجاوز كل هذه الأمراض النفسية الجماعية التي أصابت هذه القوى والخروج من آثارها السلبية الأكيدة في صناعة الاستقطاب والفرقة والانقسام التي كانت البيئة الحقيقة التي تحركت فيها قوى الثورة المضادة واستغلتها في ضرب هذه الثورة المباركة ومحاصرتها.
إن هذه الحالة الثورية وتمكن الثورة المضادة وانتقالها إلى مرحلة وأد الثورة كاملة من خلال التخلص من الثورة والثوار؛ الثورة بتشويهها، والثوار بتجريمهم ضمن حالة إعلامية وقضائية شديدة الخطورة تعمل بالتحريض والقمع، يفرض على قوى الثورة ضرورة البحث عن نقطة انطلاق حقيقية لإعادة الثقة وبنائها من جديد للانطلاق إلى حالة ثورية جديدة ومستجدة، مستأنفه ومستمرة، تشكل هذه الثقة الرصيد الأساسي الذي تستند إليه هذه القوى في فعلها الثوري الرصين مستقبلاً.
غاية الأمر في هذا المقام وفي ضوء هذه المقدمات المهمة هو الإعداد “لمعركة النفس الطويل” و”النصر الأكيد”، “أتى أمر الله فلا تستعجلوه”، عملية إحياء ثوري تصطصحب هذه المعاني كلها ضمن رؤية كلية إستراتيجية، تسكن فيها المهام والقدرات بما يمكن لهذه الثورة من جديد، معركة النفس الطويل بما أنها تنظم بين كل ذلك لتجعل من حالة الوعي الإدراكي الحركي والثوري مقدمة لعمل رصين مخطط ومحكم يشكل حفز الطاقات الثورية إلى النشاط والحركة والفعل والفاعلية، معركة النفس الطويل إمكانات وقدرات، خطط وسياسات، بناء لعلاقات، إدراكات واعية وتصورات، آليات وأدوات، مقاصد واضحة وغايات، تصورات بنائية ومؤسسات.
قوى الثورة المضادة تود أن تميل قوى الثورة عن قدراتها وأسلحتها الحقيقية التي تتسلح بها في معركة النفس الطويل التي نجعل من شعارها “هم العدو فاحذرهم”، ومجمل الأمر كذلك ليس فقط في استثمار أكيد للحظة الثورية والحالة الثورية المرتبطة بها، ومحاولة لرصد تلك الحالة الثورية، وتبين قسمات مشروع الثورة الحقيقية والثورة المضادة التي تواجهها، ولكن مناط العمل في إحياء ثوري حقيقي يقع في تدشين مشروع ثوري بديل لحالة انقلابية قطعت الطريق بخارطتها على مسار ديموقراطي، إنه المسار الثوري بكل ما يتطلبه هذا المقام:
– استثمار لفشل قوى الثورة المضادة في إدارة البلاد وتحقيق أي سند من إنجاز يمكن أن تلوذ به في إطار عملية شرعنه زائفة.
– الطاقة الثورية واستثمار كل عناصرها تؤكد أن الإخوان فصيل لا يمكن أن يستثنى في معركة النفس الطويل بل هم ركن أساسي وتأسيسي فيها، ولكنه لا يتقدم ولا يتصدر في إطار متطلبات المرحلة وفي سياقات تفرض الامتثال لقواعد فن التقدم والتأخر.
– إن القوى الثورية الأخرى وحدها وكذا الإخوان لا تستطيع أي منهم الحسم وحده في معركة النفس الطويل وهو أمر أكدته خبرة ثورة يناير، وأن اصطفاف هذه القوى إنما يشكل امتثالاً لهذه القدرة الثورية ضمن سياقات مرحلية لا تصلح فيها مسارات الاستبعاد أو التنافر، أو في القوى الثورية لبعضها البعض، ولكن علينا وفي مواجهة سياسة استهداف الثورة وقواها الفاعلة والرمزية أن نعطي الرسالة قوية واضحة أن وحدة الاستهداف تدفع لزومًا لوحدة الهدف في حماية الثورة وضرورات الإحياء الثوري.
إن التحسب للثورة المضادة والقيام بالاصطفاف الواجب لا يصلح وحده ليكون أساسًا وتأسيسًا لانطلاقة ثورية جديدة، بل أن صناعة وتصنيع حاضنة شعبية حقيقية وظهير شعبي يشكل شلالاً شعبيًا لدعم الثورة وأهلها وقواها عملاً مكملاً لا يجوز بحال التغافل عنه، ذلك أن القوة وامتلاك مصادرها التي تتباهى بها أجهزة أمنية وجنرالات المؤسسة العسكرية الذين قادوا انقلابًا فاجرًا واضحًا، لا يمكن موازنتها إلا بشعب حاضن لهذه الثورة ينتفض معها ويدعمها، ونظن أن الفرصة مواتية في إطار تشكل منظومة الثورة المضادة انشغالاً بمصالحها وتوزيع المغانم المادية والسياسية صارت تمارس سياسات محورية ليست في مصلحة معاش الناس وسياسة تسد كل أبواب الأمل لعموم الناس.
إن السياقات الدولية والإقليمية تحمل في الأفق تغيرات وتغييرات دراماتيكية لا يمكن إنكارها أو التغافل عنها ولا يمكن بحال القفز عليها، ولكن وجب على تلك الحالة الثورية وفي ذلك التوقيت لا غيره أن تستثمر كل مكامن الفرصة في هذا الحال في سياق حراك ثوري (خطابي – ميداني – سياساتي) للتعبير عن حالة كاملة وشاملة في إطار المواجهة الشاملة والمتكاملة للثورات المضادة.
هذه السياقات بما تحمله تؤكد أن التغيير قادم لا محالة، وأن تلك الفترات التي تحمل ضرورات التغيير لا بد أن يكون لدى القوى الفاعلة رؤية واضحة لعمليات التغيير بحيث تشكل تلك الفرصة أن يكون التغيير لنا وفي صالحنا ومصلحتنا لا علينا أو يمر من غير تأثير منا، إنها سنة التغيير المضطردة التي تجعل من وعي الحالة الثورية خطابًا وحركة أحد أهم الفاعلية في حركة وتحريك الشعوب، لتجعل هذه الشعوب بحق رقمًا صعبًا في معادلة التغيير الفاعلة.