العجز في السعودية ليس عيباً اقتصادياً

riyadh-saudi_20140523152108476

يُطلق “الفائض” في الميزانية عندما يكون الفرق بين الإيرادات والنفقات موجبًا في حين يطلق “العجز الحكومي” إذا كان الفرق بين الإيرادات والنفقات سالبًا، وحتى تستطيع الحكومة سداد هذا العجز تقوم باستدانة أموال من خلال إصدار سندات حكومية أو ما يسمى بـ “سندات الخزانة” وتصبح مُلزمة بدفع فائدة للمقرِضين من السوق المحلية أو العالمية، ويُسمى القرض الذي أخذته الحكومة لسد العجز بـ “الدين القومي”. 

في البلدان التي تعمل بالاقتصاد المركزي يشكل الإنفاق الحكومي المحفز الأول للنشاط الاقتصادي بحكم أنّ الجهاز الحكومي هو أكبر بائع ومشتري للسلع والخدمات في الدولة، لذلك ينظر إلى الميزانية التي تقرها الحكومة للعام القادم بأهمية بالغة حيث تعكس توقعات المستقبل للعام القادم.

يرى العامّة أن تحقيق فائض في الميزانية مؤشرًا على وضع جيد لمالية الدولة، والعكس عندما تواجه الميزانية عجزًا يكون مؤشرًا على أن الوضع المالي للدولة غير جيد… فهل هذا الكلام صحيح اقتصاديًا؟

الجواب طبعًا أن العجز الحكومي ليس عيبًا اقتصاديًا ترتكبه الحكومة بل على العكس قد يكون ألا تملك عجزًا هو العيب؛ بمعنى أن تركن الحكومة لصرف الرواتب والمستحقات المالية ,ولا تهتم لمشروعات التنمية وخططها والاستثمار ولا تكترث لتحويل البلاد لقبلة استثمارية أو بناء قاعدة إنتاجية وتوفير الخدمات اللازمة وتحقيق الفائض المُتأتي من الإنتاج لا من الريع ,هو الركون إلى الكسل والتخاذل. 

وفي البداية يسعنا القول إن مصطلح العجز الحكومي يختلف كثيرًا في الدول المتقدمة عنه في الدول الناشئة والمتخلفة على حد سواء؛ حيث يعبر العجز في الدول المتقدمة عن زيادة في الإنفاق الجاري ممثلًا بالرواتب والبدلات والضمان الاجتماعي وما يخص رفاهية المواطن ويحقق مزيدًا من ازدهار البلد، ولا يمول العجز قطاعات استثمارية لأن تلك الدول لم تصبح متقدمة إلا عندما شهدت نهضة في الاستثمار في شتى المجالات بدءًا بالعمران وانتهاءً بالتعليم والصحة والسياحة وشق الطرق وإنتاج السلع المتنوعة والخدمات المختلفة والبحث العلمي؛ حيث شهدت هذه النهضة نشاطًا استثماريًا كبيرًا مُوّل بالعجز أدى لمعدلات نمو عالية في البلاد قضت على البطالة وخلقت وظائف جديدة للأجيال القادمة وخفضت من نسب الفقر والمرض والجهل.

وقد تشهد هذه البلدان المتقدمة عجزًا كبيرًا ويوجه تمويله نحو اكتشافات علمية فضائية مثلًا أو زيادة نفقات وزارة الدفاع لتخصص للصناعات الحربية وإنتاج السلاح وتقوية الجيش.

إذن البلدان المتقدمة لا تحتاج إلى بنية تحتية فهي موجودة أصلًا ولا تحتاج لتعبيد طرق وبناء شبكة مواصلات حديثة وهي تمتلك الأفضل ولا تريد أن تبني مصانع ولديها الكثير، أضف إلى ذلك المدارس والجامعات العريقة والمشافي المبنية والمزودة بأحدث الأجهزة الطبية، لذلك يبقى في الغالب العجز في الإنفاق على الرواتب والضمان الاجتماعي كما ذكر في الأعلى.

بينما الدول الناشئة (وهنا بيت القصيد) مثل تركيا، السعودية، البرازيل، جنوب أفريقيا، الصين والهند وغيرها فهي تحتاج الأن للمراحل التي مرّت بها الدول المتقدمة وإذا لم يكن لديها القدرات المالية اللازمة لتمويل خطط التنمية والازدهار فإنها مجبرة على تمويل تلك الخطط بالعجز وتكبيد نفسها ديون لمصلحة الوطن والمواطن وإن لم يكن هذا ديدنها فهي متخلفة ستبقى في غياهب الجهل وفي مؤخرة الحضارة.

تحاول المملكة العربية السعودية تنويع مصادر دخلها المتأتي 90% منه من النفط في وضع خطط جديدة وإعادة هيكلة لبعض أجهزة الدولة يقوم بها ولي ولي العهد فيما سُمي بمبادرة “التحول الوطني” حيث تضع أولى أولياتها تنويع مصادر الدخل والتوجه نحو خصخصة بعض القطاعات والإنفاق أكثر على الاستثمار، وفرض ضرائب على السلع الأساسية في المملكة، وهذه الرؤية من الطبيعي أن تُحمّل ميزانية البلاد لعجز يموّله من مصادر مختلفة، سحب من الاحتياطي العام أو بيع سندات خزينة في السوق المحلي أو العالمي.

وبالفعل فقد صدرت ميزانية الممكلة العربية السعودية البارحة للعام المالي القادم 2016 فجاء تقدير الإيرادات العامة بمبلغ 513.8 مليار ريال ومصروفات عامة حُددت بمبلغ 840 مليار ريال؛ وبهذا تكون الحكومة قد حمّلت الميزانية عجزًا حكوميًا قدره 326.2 مليار ريال حسبما جاء في تفاصيل بيان الميزانية العامة لعام 2016 في وزارة المالية السعودية، وذكر البيان أن “تمويل العجز سيتم وفق خطة تراعي أفضل خيارات التمويل المتاحة من ذلك الاقتراض المحلي الخارجي وبما لا يؤثر سلبًا على السيولة لدى القطاع المصرفي المحلي لضمان نمو تمويل أنشطة القطاع الخاص”.

حملت الميزانية العامة إنفاقًا على قطاع الأمن والدفاع بمبلغ قدره 213.367 مليار ريال وهذا أمر طبيعي بحكم أن المملكة تخوض حروبًا على أكثر من صعيد وتسعى للتزود بالسلاح والذود عن حدودها.

وجاء الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية بأرقام عالية بمقدار 339 مليار ريال تقريبًا بمعنى استمرار الحكومة في مشاريعها في البنية التحتية والتوسع أيضًا  من خلال بناء المشافي والمدارس والجامعات والطرق والمواصلات والسياحة (الدينية وغير الدينية) والمدن الصناعية وتدريب القوى العاملة الوطنية لتتحمل مسؤوليتها في تنفيذ هذه المشاريع.

من المؤكد أن المملكة تواجه ضغوطًا من جراء انخفاض أسعار النفط إلا أنّ المملكة لا تزال تصنف في المرتبة التاسعة عشر في مجموعة العشرين والأولى عربيًا، كما أن سياسة خفض أسعار النفط العالمية التي تقودها في أوبك _لغابة في نفسها_، لذلك أي قرار منها بخفض الإنتاج في أوبك سيؤدي بالأسعار إلى الارتفاع مجدداً إلى حدود 60 دولارًا على الأقل.

منذ عام 2015 بدأت المملكة بتنفيذ خطة التنمية العاشرة التي تقتضي تحقيق معدل نمو سنوي 5.8% من عام 2015 حتى 2019، وزيادة الناتج الإجمالي المحلي من 2.8 ترليون ريال في عام 2014 إلى 3.2 ترليون ريال في عام 2019، والجدير بالذكر أن تكلفة إنتاج المملكة لبرميل النفط تعد الأرخص مقارنة بجميع الدول المنتجة في العالم؛ حيث تقدر تكلفة استخراج وإنتاج برميل النفط في المملكة 9 دولار للبرميل بينما بلغ أعلى تكلفة له 60 دولارًا في أمريكا وكندا، وعليه فإن الملكة ستبقى قادرة على الإنتاج دون خسارة حتى لو وصل سعر برميل النفط إلى 10 دولارات ناهيك عن أن المملكة تمتلك أكبر احتياطي للنفط في العالم واحتياطي نقد أجنبي وصل إلى 2.492 ترليون ريال أي ما يعادل 664.5 مليار دولار في نهاية عام 2015، كما تحتفظ المملكة بسندات خزينة أمريكية تقدر قيمتها بـ 483.3 مليار دولار حسب إحصائيات يونيو الماضي ووصلت الودائع السعودية لدى بنوك في الخارج إلى 119.7 مليار دولار.

حتى ينعكس العجز الحكومي بشكل إيجابي على المملكة عليها تقوية وضع المالية العامة وتعزيز استدامتها ومواصلة اعتمادها على المشاريع التنموية والخدمية الضرورية للنمو الاقتصادي، المطلوب الآن جملة من الإصلاحات من ضمنها:

رفع كفاءة الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي للدولة من خلال الرقابة على المشاريع الحكومية وترشيد نفقات الأجهزة الحكومية وتوظيف التقنية في تقديم الخدمات الحكومية.

الحد من تنامي المصروفات الجارية خاصة الرواتب والأجور والبدلات واعتماد معايير الشفافية والرقابة والحوكمة في السياسة المالية للمملكة.

تقليل الاعتماد على البترول والتوجه نحو قطاعات استثمارية مثل طرح قطاعات ونشاطات اقتصادية تديرها الأجهرة الحكومية إلى القطاع الخاص بالإضافة إلى تذليل العقبات التشريعية والتنظيمية والبروقراطية أمام القطاع الخاص.

دعم كل القطاعات التي تسهم في تحسين نمط حياة المواطن اليومية مثل قطاعات التعليم والصحة اولكهرباء والطرق والتعاملات الإلكترونية ودعم البحث العلمي.

رفع أسعار الوقود في السوق المحلي وإضافة ضريبة القيمة المضافة، وبالفعل المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي عملت على تطبيق هذه الخطوة.

ختامًا.. إذا كان العجز بسبب زيادة في الإنفاق الاستثماري لإيجاد فرص عمل وخلق وظائف جديدة وتحسين معيشة المواطنين وزيادة الرفاهية والازدهار الاقتصادي للفرد والمجتمع فإن هذا شيء يدعو للتفاؤل ومحفزًا اقتصاديًا، لذلك على المملكة اليوم ترتيب أولوياتها ورفع كفاءة الإنفاق وتعظيم الأداء بما يحقق أهداف خطط التنمية ويحفز القطاع الخاص على المشاركة الفاعلة في إجمالي الناتج المحلي.