يروج البعض إشاعات حول إفلاس وسقوط المملكة العربية السعودية اقتصاديًا بسبب العجز الهائل الذي ظهر في موازنتها التقديرية التي اعتمدت اليوم للعام 2016، قدر العجز بـ 326 مليار ريال (87 مليار دولار)، بدايةً هذه قراءة غير دقيقة لمفهوم العجز، صحيح أن إيرادات المملكة العربية السعودية للعام 2016 قُدرت بـ 514 مليار ريال مقارنة بمصروفاتها على البنية التحتية والتعليمية والصحية ولا ننسى الإنفاق العسكري وغيره من بنود الإنفاق قدرت بـ 840 مليار ريال!
إلا أن قراءة العجز تحتاج لكثير من الدقة والتبصّر الاقتصادي، فالعجز لم يحدث نتيجة ارتفاع في مستويات الإنفاق الجاري الاعتيادي على الرواتب والأجور، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المتتبع للشأن الاقتصادي السعودي خلال السنوات الماضية والقارئ الجيد لبنود الإنفاق على مختلف القطاعات من الصحة والتعليم والبنية التحتية سيجد مؤشرات لا يمكن تجاهلها، أهمها إن الإنفاق هو لإحداث تنمية مستدامة.
وعليه، فإن من يفقه ألف باء الاقتصاد سيدرك بأن هناك فرقًا شاسعًا بين دولة تستدين لتسد العجز الناجم عن عدم القدرة على دفع الرواتب والأجور في البلدان النامية كلبنان أو حتى المتقدمة، وبين دولة لديها عجز لكنها في طليعة البلدان الناشئة وتنتمي لمجموعة دول العشرين ولديها مشروعات طموحة فاقت إيراداتها البترودولارية.
صحيح أن المملكة تعاني من هبوط حادّ في أسعار النفط، ولهذا بدأت بتطبيق برامج التحول الاقتصادي، وسياسات التقشف، وترشيد الإنفاق، والترشيق المؤسسي، وبرامج إعادة الهيكلة، إلا أن هناك قراءة سطحية ساذجة لدلالة العجز، وسنورد سببين يدعمان حجتنا ويدحض رأي ممن يروجون لدعاية سقوط المملكة:
السبب الأول: ولنستذكر قليلًا تصريح وزير النفط السعودي الذي أدلى به في مطلع عام 2015 وبالتحديد عندما بدأت أسعار النفط تتهاوى نزولًا عن سعر 100 دولار للبرميل، يومها قال بأن المملكة العربية السعودية تستطيع أن تقاوم لثلاث سنوات في لعبة عض الأصابع حتى سعر 20 دولارًا للبرميل والأهم أنها لن تعمل من أجل رفع الأسعار على خفض الإنتاج في مجموعة أوبك!
السبب الثاني: تشير التقارير الاقتصادية إلى أنه لدى السعودية احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي تعادل احتياطيات 21 دولة عربية (بما فيها الدول الخليجية!)، حيث تحتفظ المملكة بأوراق مالية أجنبية مثل سندات الخزانة الأمريكية بما يقارب 483.3 مليار دولار، كما وصلت الودائع لدى بنوك في الخارج إلى 119.7 مليار دولار (لن ندخل في الجدل حول جدوى تلك الاستثمارات لأسباب عديدة)، بالإضافة إلى ذلك التكيّف مع الحالة الاقتصادية الراهنة لقدرتها على طرح سندات حكومية، ولانخفاض حجم مديونيتها مقارنة بدول متقدمة كدول الاتحاد الأوربي، وكذلك اليابان التي فاقت مديونيتها 230% من الناتج المحلي الإجمالي، ولا ننسى أن المملكة تحتل المرتبة الـ 17 عالميًا والأولى عربيًا باحتياطيات الذهب بما يعادل 323 طنًا من الذهب!
وعلى أية حال، يبدو للمتابع أن التوجه الإستراتيجي للمملكة سيأخذ بالاعتبار احتمال انخفاض أسعار النفط إلى 20 دولارًا للبرميل، لهذا طرحت المملكة صكوك لتغطية جزءًا من العجز بقيمة 98 مليار ريال، كما تم تأسيس مخصص دعم الميزانية العامة بمبلغ (183) مليار ریال (49 مليار دولار) لمواجهة النقص المحتمل في الإيرادات، ليمنح مزيدًا من المرونة لإعادة توجيه الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي على المشاريع القائمة والجديدة وفقًا للأولويات، واستكمال برامج التنمية المستدامة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وامتصاص أي أثر مستقبلي لانخفاض أسعار النفط، ولا ننسى أن برنامج التحول الاقتصادي المحتمل أتباعه يؤكد على ضرورة تنويع مصادر الإيرادات والانتقال الاقتصادي من الريع إلى الإنتاج وبمشاركة القطاع الخاص، وأيضًا تنمية الإيرادات غير النفطية، بلا أدنى شك تحتاج المملكة إلى إدارة وارادة قوية لتطبيق برنامج التحول الاقتصادي مع رقابة صارمة على عمليات الإنفاق والكفاءة في تنفيذ المشروعات.