عندما يتحدث ديننا عن القيم كغايات وشعارات بدون الحديث عن جميع الوسائل التي ستقودنا إلى تلك القيم، فهذا يعني أن ديننا صالح لكل زمان ومكان ويقبل كل الوسائل والآليات التي تُطرح للوصول إلى القيم الإنسانية العظيمة التي يحتويها ديننا الإسلامي مالم تُعارض القيم أخرى، إلا أن هذا الدين بحاجة إلى مجدد أو مُصلح ليجدده، كما أنه بحاجة إلى علماء يُجيبون على التساءلات التي أصبح من السخف تجنبها، لأن عدم الإجابة عليها تؤكد وجهة نظر المستشرقين الجدد الذين أصبحوا مراجعًا للأجيال الجديدة في الغرب، فبدل سبهم وفضحهم أجيبوا على التساؤلات، فالإسلام يمر بأشبه ما يكون بالدين المسيحي في القرون الوسطى وسيبقى عالقًا هناك ما لم نجدده.
تجديد الخطاب الديني يتطلب مؤسسات إصلاحية ومصلحين، وعندما تُصبح المؤسسات الدينية في العالم العربي أداة بيد الطغاة وجزء من منظومة الفساد والإفساد، تبرز الأفكار التي تُبرر الواقع والفشل السياسي والاقتصادي بدل أن تساهم في تغييره، إن الشعوب العربية عندما خرجت بثوراتها ونادت بالإصلاح السياسي وقيم الديمقراطية، أغفلت أهم أنواع الإصلاح على الإطلاق بل ليس هناك إصلاح بدونه، ألا وهو الإصلاح الديني الذي يُعد المحرك الرئيسي والمدافع الشرس عن مسيرة الإصلاح السياسي والحامي لكل نهضة فكرية وثورة على القيم البالية والتي تقبل الواقع.
فالدين مرتبط بعواطف الإنسان المسلم وربما أديان كل البشر وليس فقط المسلمون، ويدخل كل مناحي ومجالات الحياة قيميًا وإنسانيًا وأخلاقيًا، إلا أن أخطر ما يكون هو ارتباطه بالسياسة والحكم، فعندما يُصبح “الدين السياسي” لو صح التعبير حكرًا على المؤسسة الدينية الخاضعة لمنظومة الفساد في نظم الاستبداد، سترى من يُبرر البراميل المتفجرة والحصار والتجويع كالمفتي حسون في سوريا خريج كلية الشريعة والمخابرات السورية، وسترى أيضًا علي جمعة شيخ الأزهر يُبرر الانقلاب وحرق المتظاهرين في رابعة ويقول للسيسي “اضرب بالمليان”، وما بين هذا الأبله وذاك المغفل ظهر “داعش” بشكل جديد من أشكال الاستبداد الديني والأشد فتكًا من الاستبداد السياسي.
فالاستبداد الديني وليد الاستبداد السياسي إن لم يكن توأمه، خرجا من نفس البويضة والرحم؛ لذا لا يمكن أن تُحقق الشعوب العربية أهدافها ونهضتها وتُصلح وضعها السياسي أو تُحاول ذلك وتغفل قيم الاستبداد الديني كطاعة ولي الأمر أو الوقوف بصف الغالب والسكوت عن الفعل المُغير وانتظار حلول من السماء أو ممارسة عبادة الدعاء فقط! على أهميته.
لا نهضة ولا تغيير ولا إصلاح سياسي بدون الإصلاح الديني وإصلاح ما أفسدتهُ نظم الاستبداد من القيم التقليدية (الدينية) البالية البعيدة عن الدين وطريقة التفكير القابلة والراضية بالواقع، لأن خطرها يدفع باتجاه عودة الاستبداد وهياكله فقد عاد جزئيًا في مصر بالانقلاب والثورة المضادة، وفي تونس بالسبسي وتحالفاته، والعراق وسوريا بداعش باستبدادها الديني وهرطقتها الفكرية، وفي اليمن بالحوثي الذي لا يَقل داعشية وهمجية عن “داعش” بتحالفه من قوات صالح، وهنا أشير إلى النقطة كيف عادت فكرة العمل معًا (الاستبداد الديني والسياسي) لتلتحم القوى وتتحالف في اليمن كما في سوريا والعراق وبلدان أخرى، كل حسب طريقته وأدواته.
فلو نظرنا إلى القرون الوسطى تاريخيًا، تلك الفترة التي نعيشها اليوم مع فارق الزمان والمكان لشاهدنا تزاوج الاستبداد السياسي مع الاستبداد الديني بسلطة الكنيسة مع تكامل الأدوار بينهما: الأول يقمع والثاني يُخدر، والنتيجة عصور من الظلام، إلا أن انطلاقة مارتن لوثر كنغ (1546م- 1483م) في الإصلاح الديني وحركته “البروتستانتية” كحركة إصلاحية واحتجاجية من داخل المؤسسة الدينية نفسها “الكنسية” هي من جعلت النهضة أكثر إشراقًا واتساعًا، فقد نهضت وأيقظت العقول أولاً، ونهضت بالإرادة الإنسانية، وحاولت الإجابة على التساءلات الحبيسة في غياهب الكنيسة وعقول رجال الدين، فتحرير العلم والفن والاقتصاد والفكر والفلسفة من قيود الاستبداد الديني والسياسي حقق النهضة الأوربية بعد قرون من الظلام والاستبداد.
إن الإصلاح والتجدد الديني لا يعني ترك القيم أبدًا أو أن تنحرف قيمنا باسم التجديد، بل ما أعنيه هو تبديل الوسيلة لتحقق نفس القيمة الدينية والإنسانية على ألا تتعارض قيمة تلك الوسيلة مع القيم الدينية والإنسانية الأخرى، وإبراز قيم الدين الإنسانية وجعل الدين دين للإنسان وليس دين المسلم فحسب، علمًا أن الإصلاح الديني ليس مهمة الإسلاميين والمجددين فقط، بل الإسلاميين جزء منهم وهم أساسهم، وهي مهمة الجميع لأنها أساس النهضة الشاملة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وفكريًا.. إلخ، فهل تساءلتم لماذا يصاحب كل مستبد، مفتي يخدر الناس ويُصبغ قراراته بالدين وبالفتاوى الدينية؟ نحن بحاجة إلى مارتن لوثر كنغ الإسلامي وبروتستانتية إسلامية كحركة إصلاحية مؤسسية، لتنقل ديننا إلى عصر الأنسنة والعالمية وتأقلمه مع الواقع والتطور، فهو أساس إنهاء الاستبداد السياسي وأساس النهضة بكل أشكالها وأنواعها.