تتشارك إيران مع العديد من بلاد الشرق الأوسط الأخرى في العنصرية القائمة على الجنس في كل من القانون ومظاهر الحياة العملية المختلفة، حيث تبنّت وزارة التربية والتعليم الإيرانية مبدأ “أسلمة” المؤسسات التعليمية بشكل موّسع، ليتم الفصل بين الذكور والإناث، ليس فقط في المراحل التعليمية الأساسية بل وفي الجامعات كذلك، بالإضافة إلى فرض قيود على الفتيات من دراسة بعد التخصصات العلمية المُحتَكرَة على الذكور فقط، لتأتي قناة الجزيرة الإنجليزية بفيلم يوّثق تلك المشكلة في حلم فتاة إيرانية في الوصول إلى النجوم ورغبتها الملحة في أن تصبح رائدة للفضاء، بعنوان “زبيدة : حلم الوصول إلى النجوم”،.
يمكن القول بأن المدهش في الأمر أن المخرجة أجنبية وليست إيرانية، وهي الدنماركية بيريت مادسن التي توجهت إلى إيران لتسجل خلال أربع سنوات تجربة الشابة الإيرانية زبيدة وحبها لعلم الفلك وشغفها بذلك العلم وسط تساؤلات وسطها المجتمعي، إلا أن كون المخرجة أجنبية يفتح الباب لعرض كثير من التساؤلات في الفيلم عن تلك العنصرية القائمة في بلاد تتبنى نفس الثقافة الإيرانية، فهل هي عنصرية جذورها الدين أم الثقافة؟
زبيدة هي طالبة في عمر السابعة عشر، كرّست حياتها ووقتها من أجل دراسة السماء منذ وفاة والدها، فهي تجد في السماء مهربًا لها من ضغوطات المجتمع، وتجد في دراسة عوالمها السرمدية ملجأ للسلام الداخلي الذي يبحث الجميع عنه، فوسط تحفظات المجتمع الإيراني المتمثل في والدتها وجيرانها، تخرج زبيدة بعد منتصف الليل بصُحبة التلسكوب الخاص بها لمشاهدة النجوم ودراستها مع صحبة من أصدقاء لها اشتركوا في نادي لعلم الفلك.
يسمي الإيرانيون علم الفلك بالتنجيم، ليس لعلاقته بالشعوذة في بعض التقاليد ولكن لعلاقته الأساسية بالنجوم، كان والد زبيدة هو الآخر مهتمًا بالتنجيم أو بعلم الفلك، حملت زبيدة ذلك الإرث من الشغف بحب النجوم بعد رحيله، وعزمت أن تسلك طريقها للسماء يومًا ما من أجل أن تكون أقرب إلى أبيها.
لم يكن تحقيق ذلك الأمر سهلًا على زبيدة، خاصة لكونها تعيش وسط ذلك المجتمع المحافظ نسبيًا، حيث كانت هناك تحفظات تحيط بها من والدتها وخالها، إذ يصوّر الفيلم تهديده لها في إحدى اللقطات بالقتل إذا وقعت في شر الرذيلة نتيجة لخروجها لدراسة السماء كل يوم بعد منتصف الليل بصحبة الشباب، لتنفجر هي الأخرى باكية قائلة “ما الرذيلة الموجودة في النظر إلى السماء؟!”.
لجأت زبيدة إلى وسيلة عجيبة في التخلص من هموها، وهي الكتابة إلى آينشتاين، كان بالنسبة لها صديقًا افتراضيًا، تشكو إليه همها في محاولتها البائسة لمواصلة حلمها والسير وراء شغفها بالنجوم، فقد كتبت في الفيلم العديد من الرسائل له تخبره بتطوراتها في دراستها لتصبح رائدة فضاء، وأنه قدوتها في الفيزياء، فهي أيضًا تريد دراسة علم الفيزياء وبخاصة فيزياء الذرة، الأمر الذي سيجعلها خبيرة في علم الفضاء أكثر.
في اللحظات التي كانت تنشغل فيها بالكتابة كانت المخرجة الدنماركية تنشغل في تقريب ذلك العالم السرمدي إلينا عبر تصويرها المدهش للمجرات والكواكب وحركتها، ليصبح أمامنا عالمان: عالم تجسده الكاميرا وآخر تسجله زبيدة، وخلالهما نعيش تجربة نادرة وغير مألوفة لشابة صغيرة من قرية فلاحية بسيطة سكنها حلم أن تصبح فلكية ورائدة فضاء في بيت لم يكن بمستطاعه تأمين قوته بعد وفاة صاحبه.
استخدمت والدتها مبدأ الاستغلال العاطفي، وتنبيهها إلى أن هناك من يجب أن يرعى الأرض التي تركها والدها لهم كإرث، حيث بدون رعاية تلك الأرض وزراعتها لن يكون هناك مال كاف لالتحاقها بالتعليم الجامعي، بالإضافة إلى أن دراسة علم الفلك ستكون باهظة الثمن عليها، لتخبرها والدتها بأن الحل الأمثل هو التخلي عن ذلك الحلم والبقاء في المنزل والتفكير في الزواج.
كان المهرب بالنسبة لزبيدة هو القبول بعرض للزواج من شاب شاركها الشغف بعلم الفلك وزميل لها في نادي دراسة الفلك ومراقبة النجوم ليلًا، إلا أن مسألة الزواج كانت نقطة محورية في مصير الفيلم، مثل انعطافًا حادًا أجبر الوثائقي على التحرك وسط مساحات متفرقة في محاولة الحفاظ على الخيط الدرامي والتركيز على استمرار زبيدة في مواصلة ذلك الحلم رغم خطبتها، حيث إن تشجييع زوجها لها كان الأمر الذي ساعد تلك القصة بأن تكتمل.
بعد مكالمتها صارت كل تلك الثنائيات أكثر وضوحًا وتشجعيًا للدنماركية على مواصلة متابعتها للأطراف المحيطة بها، وأكثرهم غموضًا كانت الجهات الرسمية وموقفها من مشروع بناء المرصد الذي بدأه المعلم “أكبري” معلمها في المدينة في نادي مراقبة النجوم، لم تتحمس الدولة لأحلامها ولا لمشروع معلمها الذي أراد من وزارة التربية والتعليم تمويل مشروع بناء مرصد في المدينة، وقد اتضح دور المؤسسات القامع هذا حين جاءهم الرد دون التباس: “لن ندعم مرصدًا لا نتحكم نحن بإدارته”.
تأتي المفاجأة السعيدة في نهاية الفيلم، في محاولة لإنعاش الأمل من جديد تعلن رائدة الفضاء أنوشه الأنصاري عن استعدادها لدفع ثمن دراسة زبيدة وملازمتها كمساعدة لها حتى تحقيق حلمها في الوصول إلى النجوم بدون انتظار مساعدة الدولة الإيرانية.
يمكن اعتبار هذا الفيلم من الأفلام السعيدة التي يمكن رواية حكايتها قبل النوم للأطفال، إلا أنه واقع حدث بالفعل لتوثقه السينما ليكون نموذجًا لشباب أي بلد يقمع أحلامهم وطموحاتهم، ليبين للجميع أن لا يوجد شخص ناجح يعيش حياة مليئة بالرغد والاستقرار في جميع مراحلها، يجب أن يتعرض الجميع لآلاف المرات من الفشل والسقوط والإحباط، حتى يجد الأمل طريقًا إليهم ليكون خطوى أولى في طريق المقاومة والنجاح.