كنت في منتصف العمل على رسالتي للدكتوراه عندما أثار اهتمامي مقتل، أو وفاة، الملك غازي بن فيصل، ثاني ملوك العراق الحديث، في حادث لم يزل يكتنفه الغموض حتى اليوم. ولد غازي في 1912 في الحجاز، بعد عودة جده، الشريف حسين، ووالده وأعمامه، من منفاهم في إسطنبول، وتولي جده أمارة الحجاز، ذات الوضع الخاص في النظام العثماني. في 1921، وفي حمى الاضطراب الذي شاب علاقة الأشراف بالحليف البريطاني، في أعقاب انهيار السلطنة العثمانية، وتراجع البريطانيين عن الوعود التي أطلقوها لحسين خلال سنوات الحرب الأولى، وافق البريطانيون على إعلان العراق دولة ملكية وإعلان فيصل أول ملك للعراق.
كان فيصل عمل بعد دخول قوات الأشراف دمشق على إنشاء دولة عربية، تكون دمشق عاصمتها، ولكن الاتفاقية البريطاني الفرنسي الذي توصل إليه مارك سايكس وجورج بيكو في 1916، ثم التسوية النهائية بين الحليفتين الإمبرياليتين في سان ريمو، 1920، منحتا سورية ولبنان للفرنسيين، الذين سارعوا إلى إطاحة فيصل والقضاء على حلمه الدمشقي. وهذا ما دفع البريطانيين إلى استرضاء الأشراف، حلفاؤهم خلال سنوات الحرب، بإعطاء مملكة العراق لفيصل وإمارة شرق الأردن لشقيقه الأكبر عبد الله، الذي كان وصل الأردن بقوة صغيرة لنجدة شقيقه في دمشق عندما تصاعدت تهديدات الفرنسيين للحكومة العربية في دمشق.
نشأ غازي في كنف جده، نظراً لاشتغال فيصل بالحرب ضد العثمانيين خلال سنوات الحرب الأولى، وبعد ذلك في دمشق والعواصم الغربية؛ ولم يلتحق غازي بوالده في بغداد إلا بعد عامين من تنصيب فيصل ملكاً على العراق. وربما كان لسنوات نشأته الأولى ومعرفته بالمرارة البالغة التي شعر بها الجد بعد نكث البريطانيين لوعودهم، ثم تخليهم الكامل عن حسين وتركه فريسة لقوات الحركة السعودية، دوراً في تنمية مشاعر عداء مكبوت لدى غازي تجاه البريطانيين. ولكن هذا العداء لم يكن ظاهراً أو معروفاً بصورة واسعة خلال عهد فيصل الأول وولاية عهد غازي. تعلم فيصل درس سورية جيداً ورسم سياسته منذ توليه عرش العراق بقدر كبير من الحذر والاعتراف بتوازنات القوى. فمن جهة، كان العراق أصبح دولة تحت الانتداب البريطاني، ولم يستطع الحصول على استقلال مشروط حتى 1932، مع بقاء العلاقة الخاصة ببريطانيا واستمرار النفوذ البريطاني السياسي داخل العراق، إضافة إلى قواعد بريطانية العسكرية.
ومن جهة أخرى، لم يكن للأسرة الهاشمية من جذور عميقة في العراق؛ وبالرغم من أن العراقيين وافقوا في استفتاء على تولي فيصل عرش دولتهم الوليدة، إلا أن العراق الجديد كان يعج بالرجال الأقوياء، ولم يكن قد اكتسب هوية وطنية مستقرة بعد. من جهة ثالثة، وجد العراق نفسه، ما إن تبلور نظام ما بعد الحرب الأولى المشرقي، محاطاً بقوى إقليمية جارة، في إيران وتركيا والسعودية، تفوقه قوة وقدرة وتأثيراً، بدون أن تطمئن أي منها للأسرة التي نصبت على عرشه. في ظل هذا التعقيد البالغ، حاول فيصل الموازنة طوال سنوات حكمه بين حاجته القصوى لبريطانيا، الاستجابة لطموحات العراقيين الوطنية، وتحييد الجوار الإقليمي، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، آملاً أن تتاح فرصة في المستقبل لتوحيد العراق وسورية وبناء دولة أكثر قدرة على البقاء والمنافسة.
في 1933، توفي فيصل في مشفى سويسري، وتوج ابنه الشاب ملكاً. كانت انتكاسات أعقاب الحرب الأولى هي من شكل رؤية فيصل لعملية الحكم والسياسة، أما الأبن فقد حمل معه إلى العرش، ولم يزل في مطلع العشرينات من العمر، مرارات الجد وخيانة الحليف البريطاني. ولذا، ومن اللحظات الأولى لعهده، بدا غازي أقل حذراً وأكثر اندفاعاً، بغض النظر عن حكم التاريخ على صواب وحكمة قراراته. قرب غازي إلى دائرته بعضاً من العناصر الوطنية العراقية المعادية للبريطانيين؛ وبالرغم من أن العراق بني كمملكة دستورية برلمانية، فقد ظهر الملك الشاب، بما له من سلطة محدودة، أميل إلى مشاكسة المسؤولين البريطانيين في العراق عما اعتاد هؤلاء من والده. وفي الشهور الأخيرة من عهده، كان غازي قد أسس محطة إذاعة خاصة في قصره، تبنت خطاباً عروبياً واضحاً. وكما كل حكام العراق من بعده، أدرك غازي مأزق العراق الحديث الجيو- سياسي، الذي أعطى لبلد تبلغ مساحته ما يقارب نصف مليون كيلومتراً مربعاً، تحيطه ثلاث قوى إقليمية رئيسية، مجرد نافذة صغير وضيقة على الخليج. وهذا ما جعل الملك يتبنى فكرة عودة الكويت للعراق، على أساس أنها اقتطعت أصلاً من ولاية البصرة.
في 4 نيسان/ابريل 1939، أعلن عن وفاة غازي. كان الملك، طبقاً للرواية الرسمية، يقود سيارته في حديقة قصره، عندما اصطدمت السيارة بعمود للكهرباء، مما أدى إلى وفاته. ولكن الحادث بدا لي، كما لعدد من مؤرخي تلك الفترة، محيراً؛ ليس فقط لأن قيادة سيارة في ممر بحديقة قصر عراقي في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي لا يجب أن تشبه قيادة سيارة في طريق ألماني أو أمريكي سريع، ولكن أيضاً للظروف السياسية السائدة آنذاك. إذ لم يظهر غازي نزقاً واضحاً وعداءً للبريطانيين وحسب، ولكن بريطانيا، ومعها كل أوروبا، كانت ترى نذر حرب كبرى في الأفق، بعد أن أعاد النازيون بناء ألمانيا وأخذوا في تهديد جوارهم الأوروبي. ولأن الألمان بدأوا في إحياء علاقاتهم بدول الشرق الأوسط، الغني بمصادر الطاقة، بما في ذلك العراق، لم يكن لبريطانيا أن تتجاهل وجود ملك لا يمكن الاطمئنان لنواياه، لا في العراق ولا في تجاه الكويت. والمعروف أن عموم العراقيين لم يبد ثقة في الرواية الرسمية لوفاة الملك، وأن أغلبهم، ربما حتى اليوم، وبعد مضي أجيال على الحادث، يعتقد أن البريطانيين دبروا مقتل غازي.
عندما بدأت محاولة استطلاع المسألة، ظننت أنني سأجد في مركز الوثائق البريطانية ما يضيء الطريق. أسست الحكومة البريطانية لتقليد يقسم الوثائق الرسمية لصنفين رئيسيين: الأقل حساسية، وهي التي يفرج عنها للاطلاع العام بعد مرور ثلاثين عاماً؛ والأكثر حساسية وأثراً على الأوضاع الراهنة، ويفرج عنها بعد مرور خمسين عاماً. وقد صادف عند اشتغالي بالأمر أن كان أكثر من خمسين عاماً مرت فعلاً على حادثة غازي.
ولكن ما إن بدأت في تفحص الوثائق القليلة التي ضمها ملف وفاة الملك، حتى فوجئت بأن جزءاً كبيراً من الوثائق، بما في ذلك التقرير الطبي عن الوفاة، قد احتفظ به من قبل ‘الدائرة المختصة’، وهو التعبير المستخدم للإشارة إلى أن الوزارة التي تعود لها تلك الوثائق، وهي في هذه الحالة وزارة الخارجية والكومنولث، قررت عدم الإفراج عنها. في نهاية هذا العام، سيكون قد مر خمسة وسبعون عاماً على الحادثة، وربما يتطوع أحد الباحثين للمحاولة من جديد في مركز الوثائق البريطانية، ويرى ما إن كانت حكومة صاحبة الجلالة قد أصبحت أقل قلقاً في الكشف عن الوثائق ذات الصلة بالحادث. ولكن الحقيقة، أن قضية الملك غازي ليست الوحيدة التي لم يزل يحيط بها الغموض في تاريخ الشرق الأوسط. حريق القاهرة، مثلاً، الذي كان أحد أبرز أسباب الإسراع في انقلاب الضباط الأحرار في 1952، لم يزل غامضاً، يصعب على مؤرخي مصر الحديثة الجزم بمسؤولية أحد أو حزب عنه. يضاف إليه غموض من نوع آخر حول القوى التي شجعت على أو دفعت إلى انقلاب سبتمبر/ أيلول 1961 في دمشق، الذي نجم عنه وضع نهاية للوحدة المصرية السورية. وهكذا.
ولكن، ما هي المناسبة التي استدعت العودة إلى حادثة الملك غازي؟
في ايار/مايو الماضي، أجابت كريستين فيرغسون، من وزارة الخارجية البريطانية، على سؤال حول الملفات التي امتنعت الوزارة عن الإفراج عنها للاطلاع العام، مشيرة إلى أنها ليست سوى مجموعة من المتفرقات، التي لا تزيد عن ربع مليون ملف. ولكن، في نهاية يوليو/ تموز، وبدون ضجة كبيرة، اعترفت الوزارة في خبر صغير، وضع في موقعها على الإنترنت، بأن هناك 1.2 مليون ملف، بعضها يعود بعيداً في الماضي إلى معاهدة باريس 1856، التي أنهت حرب القرم، مخزنة في هانسلوب بارك (وليس في كيو غاردن، حيث الإرشيف العمومي البريطاني)، في عهدة اللورد تسانسلور، المسؤول عن ممتلكات الدولة. هذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها وزارة الخارجية بالحجم الهائل للملفات والوثائق التي لم يفرج عنها بعد مرور خمسين عاماً، سقف السرية المتعارف عليه، الذي يفهم من روح قانون 1958، الذي ينظم عمل مركز الوثاق البريطانية ومسؤولية الدولة في الإفراج عن وثائقها للباحثين والدارسين. في تعليقه على هذا الاعتراف، كتب البروفسور ريتشارد درايتون، أستاذ التاريخ الإمبريالي في كلية الملك بجامعة لندن، قائلاً إن الإفراج عن هذه الملفات قد يغير نظرتنا لمنعطفات رئيسية في التاريخ الحديث، مثل تقسيم إفريقيا بين الإمبرياليات الأوروبية، والأسباب خلف اندلاع الحربين العالميتين، الأولى والثانية. والأرجح، نظراً للدور الكبير الذي لعبته بريطانيا في تشكيل العالم الحديث، إن الإفراج عن هذه الوثائق قد يغير نظرتنا للكثير من حلقات تاريخ العالم، بما في ذلك تاريخ الشرق الأوسط الحديث، منذ نهاية القرن التاسع عشر.
تعتبر السرية إحدى أعمدة الدولة الحديثة، ولكن إقامة علاقة عقلانية بين الدولة وشعبها يتطلب وضع سقف لهذه السرية. والمشكلة لا تتعلق ببريطانيا وحسب، بل وكثير من دول العالم، والدول العربية على وجه الخصوص. ليس ثمة أمة ينبغي أن تخجل من تاريخها، وعندما يتاح أرشيف الدولة للدراسة والبحث، بعد مرور فترة زمنية معقولة، يصبح من الممكن بناء هذا التاريخ بصورة أقرب للصواب، ويصبح من الممكن معرفة الطريقة التي تصرفت فيها الدولة في لحظة أزمة ما أو تجاه قضية ما، ويصبح من الممكن تجنب بروز عقل سري للدولة، منفصل ومستعل على الشعب. هذه مسألة لا تخص المؤرخين وحسب، بل ووجود الأمة ودولتها، كذلك.