يمثل إنتاج الذهب في السودان ركنًا أساسيًا في مساعي الحكومة للحفاظ على اقتصاد البلاد والحيلولة دون انهياره بعد انفصال جنوب السودان عام 2011؛ حيث تلقى الاقتصاد السوداني ضربة موجعة تمثلت بفقدان 75% من حقول النفط التي كانت تمثل أكثر من 50% من إيرادات الموازنة، وتدهورت قيمة العملة الوطنية (الجنيه السوداني) حيث بلغ سعر الدولار في السوق السوداء 9.2 جنيه بينما كان سعره 2.9 قبل الانفصال.
ومن أجل تأمين احتياجات البلاد كان لزامًا على الحكومة تأمين مصادر أخرى غير النفط الذي خسرته بعد الانفصال؛ حيث عُدَّ النفط المصدر الرئيسي للإيرادات العامة اللازمة لسداد كلفة الواردات، فأصبح اعتماد الاقتصاد السوداني بعد عام 2011 على قطاع المعادن لأهميته البالغة في استقطاب الاستثمارات الأجنبية وتأمين فرص العمل وتوفير العملات الأجنبية الصعبة.
الجدير بالذكر أن السودان تعد إحدى أكبر دول القارة من حيث احتياطيات الذهب بأفريقيا لكن الولايات المتحدة فرضت حظرًا تجاريًا منذ عام 1997 يحُول دون استثمار معظم الشركات الغربية بهذا البلد.
لقد حقق إنتاج الذهب الأصفر في السودان رقمًا قياسيًا خلال عام 2015 إذا أنتجت 82 طنًا من الذهب حتى مطلع ديسمبر 2015 متجاوزًا إنتاج عام 2014 البالغ 71 طنًا ومتجاوزًا كذلك خطط الحكومة لزيادة الإنتاج إلى 76 طنًا نهاية عام 2015.
ونزولًا عند تطوير قطاع المعادن والتنقيب عن مواقع توفر الذهب في السودان تسعى الحكومة لجذب استثمارات أجنبية في هذا القطاع المهم الذي تزخر أراضي السودان به حيث تنتشر أماكن التعدين التقليدي في أكثر من 800 موقع في معظم ولايات السودان الشمالية والغربية، وتعمل 111 شركة في مجال التعدين منها أكثر من ستين شركة أجنبية من الصين وروسيا وكندا وأوروبا.
كما وقّعت وزارة المعادن السودانية في يوليو 2015 “أكبر عقد استثماري” في تاريخ السودان مع شركة سيبريان الروسية للتنقيب عن الذهب بولايتي نهر النيل والبحر الأحمر.
وخلال مراسم توقيع العقد أعلن وزير المعادن السوداني أحمد محمد صادق الكاروري أن الشركة الروسية “سيبيريا للتعدين” اكتشفت أكبر احتياطيات من الذهب الخام في السودان في ولايتي البحر الأحمر ونهر النيل، وتم تحديد كميات قُدرت بنحو 46 ألف طن من الذهب – مع تحفظ الكاتب على هذه الكمية بحكم أنّ تقنية تحديد كمية الذهب في باطن الأرض ليست دقيقة – تمثل كنزًا في باطن الأرض، أي ما قيمته ترليون و702 مليار دولار.
سيبدأ إنتاج الشركة في شهر يونيو 2016 وبموجب الاتفاق سيتم استخراج نحو 33 طنًا من الذهب في العام الأول ليزيد هذا الإنتاج خلال عامين ونصف إلى 53 طنًا سنويًا، ويقدر نصيب الدولة السودانية من الكميات المنتجة نسبة 75% بينما نقدر نسبة الشركة 25% حسبما أشار الوزير السوداني.
الشركة الروسية ستستثمر في قطاع التعدين من خلال إنشاء مصنع كبير شمال السودان لإعادة تدوير وصقل الذهب المستخرج فيها وسيكون الأول من نوعه في القارة الأفريقية، بتكلفة تبلغ 240 مليون يورو وبقدرة إنتاجية تقدر بـ 50 طنًا من الذهب سنويًا.
يُذكر أن قطاع التعدين الأهلي في السودان يوفر فرص عمل كثيرة في السوق السودانية حيث يعمل فيه أكثر من مليون سوداني ويشكل إنتاج الذهب 90% في قطاع التعدين، وبعد الاستخراج يقوم بنك السودان المركزي بشراء الذهب من المنتجين الذين يقومون بالتنقيب عنه في البلاد.
وفي خطوة مهمة قامت بها السودان في الأعوام الماضية أعلنت عن إنشاء احتياطي من الذهب من خلال الاحتفاظ بنسبة 10% من الكميات التي يقوم بشرائها البنك المركزي السوداني من المنتجين فيما يقوم بتصدير الباقي.
وحسب تصريح وزير المالية السوداني بدر الدين محمود في مايو 2014 فإن صادرات السودان من الذهب بلغت 4 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث الماضية.
ترى الحكومة السودانية ضالتها في إنتاج المزيد من الذهب لتمويل المشاريع الاستثمارية وحل الضائقة الاقتصادية التي تمر بها البلاد الأمر الذي سيؤدي إلى خلق فرص عمل وزيادة الناتج المحلي الإجمالي للبلاد ورفع مستوى حياة المواطن من جهة ومن جهة أخرى تسديد الديون الخارجية على السودان البالغة 46 مليار دولار، ومن جملة مساعي الحكومة أيضًا امتصاص حالة الاحتقان والاضطراب وسط الشارع السوداني بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تبدت بعد إعلان الحكومة نيتها عن رفع في أسعار السلع الأساسية والتي أدت لخروج مظاهرات شعبية في الشوراع رفضًا لهذه القرارات.
على الحكومة السودانية ألا تغتر كثيرًا بكمية الثروة المكتشفة من الذهب في البلاد فالثروة الحقيقة هي الثروة البشرية التي تحقق التطوير والإبداع في كل مناحي الحياة حتى بدون وجود ثروات باطنية، ويبقى بريق الذهب الأصفر يشابه بريق الذهب الأسود يحتاج لإدارة مستدامة تنتج بشكل متزن توفق بين حاجيات البلاد واحتياجات الأجيال القادمة ولا تنسى أنها ثروة ناضبة قد تنفذ في أي لحظة لذلك لا بد من تنويع مصادر الدخل وألا تعتمد موازنة البلاد على إيرادات الذهب فقط.
في النهاية لا يوجد في سويسرا مناجم ذهب ولكنها تعتبر المركز العالمي الأول لتنقية وتكرير معدن الذهب، حيث تشير التقديرات أن ثلثي كميات الذهب في العالم تعبر ماديا من خلال سويسرا والسبب وراء تربع سويسرا في الريادة هي مستوى الأمان العالي ونجاعة النظام المتوفر على المستوى اللوجستي والمالي على حد سواء إضافة إلى نجاح المصافي السويسرية في بلوغ مستويات جودة يُجمع الخبراء وصفها بالإستثنائية.
لذلك على السودان أن تضع نصب عينيها أنّ صناعة الذهب قد تجعلها رائدة وفي مصافي الدول المتطورة إذا لم تكتفي بالإستخراج فقط، بل تعمل على تطوير بنية تحتية لوجستية ومالية وإدارية وما يرافقها من تحقيق معايير الشفافية والأمان وتدريب كوادر وطنية تقود هذه الصناعة للاستغناء عن الكوادر الأجنبية، لتحقيق منافسة في صناعة تكرير وتنقية الذهب، والعمل من أجل وضع ختم على أونصة الذهب “صنع في السودان” بدلاً من “صنع في سويسرا”.