قراءة في فيلم البيع المكشوف الكبير The Big Short

r

ماذا تعرف عن السندات المدعومة بأصول؟ هل سمعت عن السندات المضمونة بالرهون؟ عن المقايضة المالية أو مبادلة مخاطر الائتمان أو التزام الدين المضمون بأصول أو سند الدين المضمون المركب أو المخلق؟ لو أنك لست خبيرًا اقتصاديًا فلا داعي لأن تُبدي تلك الملامح التي توحي بأنك تفكر أو تحاول أن تتذكر أين سمعت هذه العبارات من قبل، كلانا يعرف أنك لا تفقه شيئًا من كل هذا، لا أحد يفهم هذه المصطلحات المعقدة سوى خبراء الاقتصاد والمالية، مع ذلك، فإن هذه الأشياء الغريبة، هي التي تشكل العالم الذي نراه اليوم بأمجاده وكوارثه.

يحاول المخرج الساخر آدم ماكاي Adam McKay من خلال عمله الجديد “البيع المكشوف الكبير” أو The Big Short أن يحدثنا عن أكبر الكوارث التي تسببت فيها هذه العمليات المالية، ونعني الأزمة المالية التي ضربت أمريكا والعالم من بعدها بداية من 2007، ولقد استطاع الرجل من خلال الاعتماد على كتاب مايكل لويس (ذي العنوان نفسه) ومجموعة متميزة من الممثلين أن يشرح لنا أصول الأزمة وتداعياتها بطريقة مبتكرة جدًا.

من الصعب الحديث عن جنس فني لهذا الفيلم، فهو يجمع بين السيرة، الدراما، السخرية السوداء، التأريخ، والعمل الوثائقي التعليمي، يمكن أن نقول إننا إزاء ميلودراما وثائقية؛ فأحداث الرواية حقيقية في أغلب تفاصيلها وشخصياتها وجدت في الواقع وإن كانت بأسماء مختلفة أحيانًا، ولقد دعمت عشرات المشاهد التاريخية المقحمة هنا وهناك داخل الفيلم، والتقديمات الكتابية لمختلف الشخصيات والمباني والبنوك، من الطابع التوثيقي للفيلم، أما ما جعله أقرب إلى الدراما من الوثائقي، فهو أساسًا إضافة عمق درامي للشخصيات الرئيسية؛ ففي الفيلم لا تتوقف معرفتنا عن هذه الشخصيات على تفاعلها مع الأزمة المالية بل تتجاوز ذلك إلى ماضي الشخصية أو مشاكلها النفسية أو الاجتماعية أو مواقفها السياسية والفلسفية، وهو عمق لم يبنه ماكاي عبثًا كما سأبين فيما بعد، كما يظهر الطابع الدرامي في سمة الراوي غير الموثوق بروايته، أو الراوي اللاموضوعي، وهو راو مشارك في الأحداث، ويعتبر من شخصيات الفيلم، ولقد قام بدوره الممثل المتميز ريان غوسلينغ.

يحدثنا الراوي “ريان غوسلينغ” عن مدير استثمارات غريب الأطوار يدعى دكتور باري “كريستيان بايل”، استطاع من خلاله قراءته الثاقبة للأرقام أن يلاحظ أن قطاع السكن سيشهد قريبًا أزمة ضخمة بسبب عجز كبير في دفع أقساط شراء المنازل، ولأن قطاع السكن في عالم المالية يعتبر أحد أكثر القطاعات استقرارًا، فإن هذه الأزمة قد تتسبب في كارثة اقتصادية ضخمة في الولايات المتحدة، ولأن الدكتور باري هو في نهاية الأمر مدير استثمارات وكل ما يعنيه هو أن يربح عملاؤه أكثر مبلغ ممكن، فقد راهن بأموال مستثمريه على فرضية انهيار قطاع السكن، وهو ما كان سنة 2005 أكثر الأمور استحالة.

ولئن كان الدكتور باري أحد الأوائل الذين كشفوا عيب النظام، فإنه لم يكن الوحيد الذي حاول استغلاله، يخبرنا الراوي فينيت كيف عرف مصادفة بما فعله الدكتور باري، وكيف فكر في ضرورة الاستفادة من ذلك رغم كونه ابن مؤسسة بنكية ستضرر كثيرًا مما سيحصل، كان فقط يبحث عن شركة استثمارات يمكن أن تقتنع بالفكرة المجنونة، هنا تظهر الشخصية الأكثر جاذبية في الفيلم ونعني بها مارك باوم “ستيف كارِل”، كغيره من الشخصيات، يتم تقديم مارك من خلال طبعه الغريب، ونفسيته الهشة ومواقفه الحادة من النظام البنكي اللص، كان باوم يبحث عن فرصة تسمح له بالانتقام من البنوك التي تسلب المواطنين أموالهم بطريقة قانونية، ولقد جاءه فينيت بهذه الفرصة، الطرف الأخير في الفيلم، يتكون من شابين مبتدئين يحاولان الدخول في عالم وول ستريت المعقد، فيجدان صدفة مشروع الدكتور باري الاستثماري، تنبت الفكرة ويقرران المشاركة في المخاطرة الكبيرة، ويستعينان بأحد المتقاعدين من عالم وول ستريت، بين ريكرت “براد بيت” لإتمام العملية.

إن عالم المالية عالم كئيب ومعقد ولا يغري أحدًا بمتابعة تفاصيله أو بفهم آلياته، وهذا هو التحدي الذي فرض على المخرج أن يتجاوز الشكل الكلاسيكي المعروف للأفلام الوثائقية، كيف يمكن للمشاهد العادي أن يمضي ساعتين أمام شريط يحدثه عن تلك الآليات المعقدة التي سببت الأزمة دون أن يطرف له جفن؟ لقد قامت الدراما بهذه الوظيفة، أي شد انتباه المشاهد إلى الفيلم، وجعلته يتفاعل إما سلبًا أو إيجابًا مع مختلف الشخصيات، ويتشوق لمعرفة مآلها أو مآل أموالها، وبين الحين والآخر، يتجاوز الأبطال الحائط الرابع ويتوجهون مباشرة إلى المشاهد (أجل ينظرون إلى الكاميرا) لتبيين بعض التفاصيل، أو لإصلاح بعض الحقائق التي حورها الراوي البطل، وبين الحين والآخر، يستعمل المخرج وجوهًا أمريكية شهيرة لتشرح بطريقة ظريفة مصطلحًا تقنيًا معقدًا (سيلينا غوميز، مارغوت روبي…). لقد قام آدم ماكاي بكل شيء لجعل عالم المالية والبنوك أمرًا مثيرًا، بل أنه يدفع المشاهد للتعاطف مع شخصيات تخاطر لتربح على حساب الاقتصاد الأمريكي، وهو إحدى النقاط الجدلية المهمة في الفيلم.

كان بين ريكرت “براد بيت” قد صرح بهذه الحقيقة المؤسفة في وجه الشابين في نهاية الفيلم، وفي وجه المشاهدين ضمنيًا، “إذا كنا سنربح، فهناك أناس سيخسرون ديارهم، وعملهم، وحمايتهم الاجتماعية”، كما أن الراوي اعترف أنه ليس بطلاً، إنه شخص يبحث عن المال أينما كان، ولقد وجده فوق ركام القطاع السكني المنهار.

عبقرية هذا الفيلم تتجلى في شخصياته التي تبدي وعيًا حقيقيًا بحجم الكارثة وتداعياتها الإنسانية، وهي مع ذلك لا تتورع عن الاستفادة منها، أليس هؤلاء هم أبناء هذا النظام الرأسمالي؟ لماذا الحكم الأخلاقي على أناس يعيشون وفق منظومة تقيم الأشياء فقط بالدولار؟ لقد كان مارك باوم بمواقفه ومحاضراته التي هاجمت القطاع البنكي وحاولت فضح فساده وغشه، وهو مع ذلك كان أحد الأطراف التي حاولت الإفادة من الخسارة، لقد كان المخرج عبر كل هؤلاء يقول للأمريكيين: لا أبطال لكم، لا أحد يحميكم.

لقد عاد المخرج إلى الأزمة المالية ليتحمل مسؤوليته كمثقف مطالب بإعادة طرح القضية في قالب مفهوم على مستوى شعبي، لكنه حمل الفيلم أهدافًا أخرى، كانت المقابلة واضحة بين الخط السردي للفيلم وبين المشاهد الاعتراضية (مثل الجمل الاعتراضية) التي تقطع ذلك الخط، إنها مقابلة بين ما كان المواطن الأمريكي يراه على شاشة التلفاز (أغاني الفيديو كليب، حوارات النجوم، أحداث عالمية ضخمة، مبانٍ شاهقة، برامج الواقع …) وما كان يحدث على أرض الواقع، إنها مقابلة بين ما يبدو وما يخفى، وبين الوهم والحقيقة، إنها مقابلة بين مظاهر الرأسمالية وباطنها.

لقد حاول المخرج في أكثر من موضع التأكيد على أن المشكلة ليست في النظام الرأسمالي بحد ذاته، وإنما فيما حصل فيه من تلاعب على أيدي أباطرة المال والبنوك، لكن المشهد الهوليودي العام، يخبرنا بارتفاع حجم السخط على رأس المال المالي، وعلى الطابع الإمبريالي الذي يبدو كأنه بات يأكل نفسه.

فيلم معقد قليلاً في تفاصيله، ممتع في عمومه، مهم في مضمونه، رشح لأربعة جوائز جولدن جلوب، ومن المحتمل أن يترشح في جوائز الأوسكار القادمة. أدعوكم إلى مشاهدته.

العنوان: البيع المكشوف الكبير The Big Short

المخرج: آدم ماكاي Adam McKay

السنة : 2015

مدة العرض: 130 دقيقة

البطولة : Steve Carell, Christian Bale, Ryan Gosling, Brad Pitt