ماذا بعد قطع السعودية العلاقات مع إيران؟

أعلنت المملكة العربية السعودية قرارًا بدا مفاجئًا للبعض بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران بعد طلبها من أعضاء البعثة الدبلوماسية الإيرانية مغادرة البلاد خلال 48 ساعة، وذلك على خلفية التوترات الحادثة بين الجانبين منذ إعلان السعودية تنفيذها حكم الإعدام بحق 47 شخصًا بينهم رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر.
أبدت إيران امتعاضها من هذا الحكم في عدة تصريحات قوية موجهة للمملكة، منها على سبيل المثال ما جاء على لسان الخارجية الإيرانية التي أكدت أن إعدام المملكة العربية السعودية لعالم الدين الشيعي نمر النمر مؤشرًا لما أسموه “عمق عدم الحكمة واللاشعور بالمسؤولية” لدى السعودية، بالإضافة إلى تصريحات أخرى تؤكد أن الرياض ستدفع ثمنًا باهظًا لهذا الإعدام.
هذه التصريحات وشاكلتها ساهمت في شحن قطاع من الإيرانيين الغاضبين من تنفيذ حكم الإعدام، وهو ما أدى في النهاية إلى الاعتداءات التي تعرضت لها السفارة السعودية في طهران، والقنصلية السعودية في مشهد أمس الأول السبت.
السعودية اتخذت هذا الأمر ذريعة لإعلان قطع العلاقات مع إيران، فيما يبدو اعتبر هذا المشهد ساعة الصفر لإعلان قرارات متخذة مسبقًا، تحت دعاوى امتناع إيران عن اتخاذ أي تدابير للحفاظ على أمن وسلامة بعثة المملكة الدبلوماسية في طهران.
نية سعودية مبيتة
الدلائل تُشير إلى أن هذا الموقف الإيراني من إعدام المرجع الشيعي نمر النمر لم يكن السبب المفاجئ الذي قطعت السعودية العلاقات مع إيران على خلفيته، إذ إن التصريحات الإيرانية عقب كل تطور في قضية النمر كانت حادة وملحوظة بداية من الحكم بالإعدام عليه ثم تأييد الحكم، وهو ما كانت تكتفي السعودية باستنكاره باعتبار الأمر شأن داخلي.
ولا يخفى على السعوديين أن تنفيذ حكم الإعدام سيُثير حفيظة الإيرانيين بشكل أو بآخر، لذا الإعلان عن تنفيذ هذه الإعدامات في هذا التوقيت يبدو وأنه “استفزاز” سعودي لردود أفعال الإيرانيين الحادة، التي ستمكنهم من اتخاذ إجراء قطع العلاقات تحت مبرر قوي.
فالشقاق بين الغريمين متزايد في السنوات الأخيرة على خلفية الحرب في سوريا، واتهامات السعودية المتكررة لإيران بالتدخل في الشأن الخليجي الداخلي لا سيما في اليمن والبحرين، والإجراءات السعودية المقابلة لهذا كانت متصاعدة في حدتها، حتى وصلت ذروتها بالدخول في حرب مباشرة مع وكلاء إيران في اليمن “الحوثيين”، وتنشيط دعم بعض الفصائل السورية المسلحة في سوريا القريبة من المملكة أمام التمدد الإيراني على الأراضي السورية.
كذلك اقتصاديًا السعودية مستمرة في ضخ النفط بكميات هائلة، وهو السبب الرئيسي وراء انخفاض أسعار البترول بهذا الشكل الحاد مما أثر سلبًا على الاقتصاد السعودي نفسه، إلا أن السعودية ترى في هذا الأمر تحجيمًا لقوة إيران الاقتصادية بعد توقيعها الاتفاق النووي مع الغرب، والذي ستتمكن بمقتضاه من استئناف تصدير النفط، وهو ما ترى فيه السعودية تدعيمًا لنفوذ إيران في المنطقة بمنحها مزيد من الأموال عبر النفط، لذا فضلت خفض الأسعار بهذه الطريقة.
أما سياسيًا وعسكريًا لا تزال السعودية تحاول حصار نفوذ إيران في المنطقة بعقد تحالفات عسكرية عشوائية منها التحالف العربي في اليمن، وأخيرًا التحالف الإسلامي العسكري الذي يبدو وأنه لا هدف له سوى مقولة “تحالف إسلامي دون إيران”، في محاولة من السعودية لتصدير نفسها كوكيل إقليمي لـ “السنة” في المنطقة، في استخدام لورقة الطائفية التي تحترفها إيران هي الأخرى.
كل هذه الأمور كانت إرهاصات سابقة لرد فعل سعودي عنيف منتظر أمام إيران، بدأ حاليًا بعملية قطع العلاقات، وهو ما يعكس هلعًا سعوديًا من الغريم الإيراني بعد رفع الولايات المتحدة يدها عنه ليصبح في مواجهة مباشرة إقليمية مع السعودية من دون أمريكا، وهو التخوف الذي ظهر في تصرفات وتصريحات القادة السعوديين عقب إعلان الاتفاق النووي الإيراني في أكثر من زيارة لواشنطن.
لذا يُعد أمر إعدام مرجع شيعي هو إيذان بالانفجار ليس إلا، مع إضافة رسالة للداخل السعودي مفادها أن هذا المصير ينتظر أي حراك معارض، هذا بعد عدة مقدمات واضحة للعيان تؤكد أن المملكة العربية السعودية كانت في طريقها لاتخاذ هذا الإجراء عاجلًا أم آجلًا.
وماذا بعد؟
السعودية وإيران الآن يحاولان التمدد في المساحات الفارغة التي تركتها الولايات المتحدة بانشغالها عن المنطقة في انتخابات رئاسية قادمة ستحدد طريقة تعامل الأمريكيين مع هذا المستنقع من الحروب، وحتى إجراء هذه الانتخابات تعلم هذه القوى الإقليمية بأنه لن يكون هناك قرار أمريكي حاسم بفض الاشتباك بينهما، وستظل المنطقة خاضعة لحالة من الغليان دون أي حسم في النقاط المشتعلة.
لذا تنتهز طهران والرياض هذا الأمر لفرض أمر واقع جديد بالتمدد النفوذي في مساحات المنطقة، عن طريق التحالفات المضادة والتوغل في قضايا الاشتباك أكثر من المعتاد، كما حدث من السعودية في اليمن، وكما يحدث من الإيرانيين في العراق وسوريا، ومحاولاتهم فرض أنفسهم كطرف أصيل في معادلة اليمن أيضًا.
لكن يجب الأخذ في عين الاعتبار أن التصعيد المتبادل بين الجانبين سيكون له سقف واضح وهو الاشتباك في المناطق المشتبَك بها مسبقًا ربما مع إضافة بعض التصعيد ومحاولات الحسم، لكن لا يُعتقد أن يخلق الطرفان مناطق صراع تنافسي جديدة، لأن حادثة النمر هذه تعتبر الأهون بالنظر إلى تاريخ العلاقات المتوترة بين البلدين التي شهدت قطع العلاقات غير مرة، وثمة حالة من التضخيم في تناولها لحساب مواقف سياسية أخرى.
المتوقع حدوثه من الطرفين هو زيادة البعد الطائفي للصراع في المنطقة، فالسعودية ستستمر في عرض نفسها ككمثل أوحد لتكتل سني مواجه لإيران للحد من نفوذها في المنطقة، هذا التحالف تسعى إليه السعودية منذ فترة على المستوى السياسي الإقليمي دون أن يخرج بالصورة اللائقة حتى الآن، ربما يظهر هذا في التضامن الخليجي الشكلي مع السعودية في قراراتها الأخيرة كقطع البحرين العلاقات مع إيران على خطى السعودية، تلك الخطوة التي تعد “تحصيل حاصل” بسبب العلاقات الإيرانية البحرينية شبه المجمدة منذ فترة طويلة، وقد أتت هذه الخطوة كمجرد إعلان رسمي تضامني مع السعودية، وهو ما سارت السودان عليه، وكذلك الإمارات في تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إيران، وربما تلحق به دول أخرى كنوع من التضامن الشكلي مع السعودية.
كما تحاول السعودية أيضًا صناعة شعبية سنية لها عن طريق احتضان بعض التنظيمات الإسلامية السياسية السنية غير الدولتية مجددًا بعد لفظها، هذه التحالفات ستكون شعاراتها طائفية بامتياز غرضها الأساسي أن تكون حائط صد سعودي أمام تمدد النفوذ الإيراني وفقط في الصراع الدائر بينهما.
وعلى الجانب الآخر لن تكف إيران عن سياستها الطائفية المعهودة التي اعتادت أن تلوكها في شعارات مواجهة المؤامرة “الصهيوأمريكية”، فالدفاع عن نمر باقر النمر باعتباره شيعي لا يندرج تحت بند عقائدي مطلقًا لدى إيران، وإنما سياسة استخدام النفوذ الشيعي هي المحرك الأساسي في الأمر لصناعة تحالف شيعي ضد السعودية يُهددها من الداخل والخارج، ويتأكد ذلك إذا ما علمنا أن رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر لم يكن على وفاق تام مع إيران في توجهاتها الإقليمية.
وعلى هذا الأساس ستلعب إيران في مناطق الصراع من هذا المنطلق في سوريا واليمن والعراق لوضع البعد الطائفي غطاء لزرع النفوذ المصالحي في هذه المناطق، وهو ما يتم منذ فترة بالفعل بظواهر عديدة، وهو ما يؤكد أن إعطاء البعد الطائفي في الصراع حجمًا أكبر من حجمه هو غطاء لصراع نفوذ سياسي مصالحي لا ينتهي بين السعودية وإيران في المنطقة، ويريد الطرفان صناعة خنادق أعداء وأصدقاء على أساسه.
المشهد بعيون الأتراك
ينظر البعض في هذا المشهد المعقد أن الأتراك سيكونوا حلفاء للجانب السعودي في هذه المعركة، لكن سير الأحداث في الشرق الأوسط سيجبر الأتراك لأن يكونوا أعقل من التورط في هذا الصراع بأبعاده الطائفية بالكلية، وإن ظهر للوهلة الأولى أن تركيا تدعم السعودية فيه.
إلا أن التحالف السعودي التركي يقتصر على نقاط مشتركة تحقق مصالح الجانب التركي في بعض النقاط المشتعلة التي يتقاطع معها الصراع السعودي الإيراني بالأساس، كالأزمة السورية وربما يُضاف إليها مستقبلًا الأزمة العراقية.
جل ما يستطيع الأتراك تقديمه للسعودية في هذا الأمر يقتصر على الدعم في مناطق الاشتباك سياسيًا وعسكريًا كالصراع السوري الذي أصبحت وجهات النظر فيه شبه متطابقة بين الأتراك وحلفائهم من السعوديين، كالدعم العسكري وتنسيق المواقف، الذي يمكن اعتبار آخر تجلياته التحالف الإستراتيجي مع السعودية وصفقة سلاح أعلنت عنها بعض المصادر الصحفية المقربة من الرئاسة التركية تصل قيمتها إلى 10 مليارات دولار.
لكن ثمة اعتبارات أخرى تمنع تركيا من الانخراط في الصراع الطائفي مع إيران، يمكن اعتبار أهمها وأولها عدم فتح جبهة إيرانية روسية على تركيا في هذا التوقيت الحساس خاصة بعد توتر العلاقات مع موسكو، ناهيك عن العلاقات الاقتصادية الإستراتيجية بين الجارتين (تركيا – إيران) التي يصل فيها حجم التبادل التجاري بينهما إلى 20 مليار دولار، وهو أمر يصعب معه الدخول في صراعات صفرية.
الاعتبارات التركية هذه منعت التوغل في القضية اليمنية إبان “انطلاق عاصفة الحزم” مع الاكتفاء بتأييد للموقف السعودي غير مشفوع بعمل أو تحرك حقيقي، وهي رغبة تركية أصيلة في عدم فتح جبهة مع الإيرانيين في هذا التوقيت، وتفضيل إبقاء صراعهم التنافسي الإقليمي التاريخي مكتومًا، مع الأخذ في الاعتبار الحفاظ على الجبهة الداخلية التركية بعيدة عن العبث الإيراني خاصة فيما يتعلق بقضية الأكراد.
في انتظار ما تحمله الأيام للمنطقة التي ستزداد اشتعالًا بتأجيج الطائفية لحماية مشاريع سياسية بعينها.