ترجمة وتحرير نون بوست
غالبًا ما تترافق أخبار الهدنات المحلية في سوريا مع آمال عريضة حول إمكانية اتساع أفق هذه الهدنات لتصبح وقفًا شاملًا لإطلاق النار في كامل البلاد، “هذه الاتفاقيات والهدنات هي أسس لبناء شيء أكبر، يمكن أن يشمل كامل الأراضي السورية”، قال منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة يعقوب الحلو يوم الثلاثاء، بعد يوم من إجلاء مئات المقاتلين والمدنيين من ثلاثة أجزاء محاصرة من البلاد.
في وقت سابق من الشهر المنصرم، وبعيد إجلاء مئات المقاتلين والمدنيين من آخر حي يسيطر عليه الثوار في مدينة حمص، قال المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي مستورا: “هذه الهدنة لها قيمة كبيرة، لأنها تساعد على جعل تصور وقف إطلاق النار في جميع أنحاء البلد، تصورًا قابلًا للتنفيذ”.
من غير المستغرب أن تعبّر الأمم المتحدة عن هذه المشاعر بالنظر إلى أنها توسطت بتحقيق هذه الهدنة، ولكن مهما بدت تلك المشاعر حسنة النية، إلا أن اعتناق هذا الأمل يبدو أمرًا ساذجًا وفي غير محله، ويعتمد على الوضع الذي يجب أن تكون عليه سوريا أكثر من اعتماده على الوضع القائم فعلًا.
بشكل عام، لا يتم قبول مثل هذه الهدنات من قِبل الأطراف المتحاربة بقصد توسيع تأثيرها ليشمل كامل التراب الوطني، فرغم أن ظاهرة إبرام الهدنات المحلية ليست جديدة في الصراع السوري، إلا أنها لم تسهم بتحقيق أي تسوية سياسية، بل ساعدت على احتدم القتال فحسب، فضلًا عن أن خطة دي ميستورا “لتجميد” مناطق النزاع محليًا، والتي تهدف في نهاية المطاف إلى تشجيع التوصل إلى حل سياسي، لم تحرز أي تقدم منذ أن أعلن عنها في نوفمبر 2014.
يتم قبول الهدنات المحلية لأسباب إستراتيجية، وجزء كبير من أسباب القبول يعود لتحقيق المزيد من الأهداف العسكرية، فهذه الصفقات تمكّن الأطراف المتحاربة من معاودة الاقتتال مرة أخرى في يوم آخر؛ فمثلًا الهدنات التي حصلت في الشهر المنصرم، تنطوي ضمنيًا على نقل المقاتلين الموالين للنظام إلى الأراضي التي يسيطر عليها النظام، وكذلك الأمر مع الثوار، وبالتالي، من غير المرجح للغاية أن يتم التوصل إلى اتفاق هدنة لو كانت شروطه تنطوي على الاستسلام.
إذن، وبدلًا من مساهمتها بالتوصل إلى حل للصراع في جميع أنحاء البلد، تعتبر الهدنات بمثابة عنصر لتدعيم تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ “كانتونات” مختلفة، كما أنها تؤدي إلى تعزيز سيطرة الأطراف المتحاربة على معاقلها على حساب الأراضي النائية، وحتى في هذه الحالة، لا يمكن ضمان التوصل إلى السلام في تلك المناطق التي تم إجلاء المتحاربين منها؛ فمثلًا حمص، التي شهدت عملية إجلاء للثوار في مايو 2014، تليها عملية أخرى في الشهر المنصرم، تعرضت لهجومين انتحاريين كبيرين بعيد عملية التبادل، حيث أسفر التفجير الانتحاري الذي حدث يوم الإثنين عن مقتل 32 شخصًا على الأقل وإصابة 90 آخرين.
الاعتماد على الهدنات المحلية لتمهيد الطريق إلى تسوية شاملة يستبطن مشاكل أخرى، حيث أصبح التوصل إلى ترتيبات مشابهة لإبرام هدنات أخرى أمرًا أكثر تعقيدًا مع استمرار تزايد عدد الأطراف المتحاربة على الأرض وفي ذات المكان في كثير من الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، اتفاق إخلاء عناصر الدولة الإسلامية (داعش) ومقاتلي جبهة النصرة من مخيم اليرموك في دمشق، انهار بين عشية وضحاها بعد أن قتلت الطائرات الحربية الروسية كبار شخصيات الجماعات الثورية الأخرى القريبة، بما في ذلك قائد جيش الإسلام، زهران علوش.
فضلًا عمّا تقدم، تعوّل إستراتيجية الاعتماد على الهدنات المحلية للوصول إلى وقف إطلاق نار شامل في جميع أنحاء البلد على نهج تدريجي تصاعدي، وهو النهج الذي نستطيع أن نتلمس العور الذي يتخلله من خلال النظر إلى “عملية السلام” الإسرائيلية – الفلسطينية، التي اقتصرت على مجرد تكرار للعمليات بدون التوصل إلى سلام شامل، حيث أعطت هذه الهدنات الأطراف المتحاربة أو الجهات الفاعلة الفردية فرصًا كافية لاستعادة زمام الأمور واستكمال نهجها المدمر.
في ذات السياق، الإطار الدبلوماسي الحالي لحلحلة الوضع السوري والذي وُلد من رحم مؤتمرات فيينا الأخيرة، يعمل ظاهريًا على وقف إطلاق النار الشامل، ولكنه يتضمن قائمة مجموعات لاستبعادها، مثل داعش والنصرة من بين فرقاء آخرين، وهي الفرقاء التي تمثل بعض أكثر القوى شراسة على الأرض؛ فتنظيم داعش وحده، كما أُفيد في وقت سابق من هذا العام، يسيطر على نصف سوريا، مما يستحيل معه الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق نار يعم كامل أنحاء البلد، في ظل عدم وجود ما يحفز أو يلزم الفئات المستبعدة بالانخراط باتفاق وقف إطلاق النار.
وحتى لو تم التوصل، من خلال معجزة ما، لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار ضمن كامل البلد، فإن هذا الأمر لن يكون مستدامًا، وذلك في ظل عدم وجود خطة دبلوماسية تتسم بالمصداقية والواقعية لإنهاء الصراع؛ فحتى الآن، تم الاتفاق على “عملية السلام” برمتها دون التطرق إلى رأس النظام السوري بشار الأسد، وتم التعامل مع الموضوع كما لو أنه تفصيل صغير وتافه بدلًا من التعامل معه كقضية مركزية ورئيسية؛ فالجماعات المعارضة ترفض قبول أي دور للأسد في الفترة الانتقالية، كما يرفض النظام قبول أي تحاور حول انتقال السلطة أو تفاوض مع الجماعات المسلحة، وبعبارة أخرى، يرفض التحاور مع العناصر التي تمتلك أشد التأثير على الأرض.
نظرًا لهذه العقبات الثابتة التي تعترض الطريق، فإن احتمال التوصل إلى وقف إطلاق نار شامل قابل للتطبيق والاستمرار هي محاولة محكوم عليها بالفناء والفشل، ولكن ومع ذلك، وضمن الجولة الأخرى من المحادثات المقرر إجراؤها في شهر يناير الجاري، سيستمر المشاركون في هذه المهزلة الدبلوماسية بالتظاهر خلاف ذلك.
المصدر: ميدل إيست آي