كان الشرق الأوسط على موعد – ربما لم يكن مفاجئًا للمتابع المدقق – مع أزمة كبرى، مطلع العام الميلادي الجديد، تنبئ بأن 2016 في المنطقة، ستكون ساخنة بكل ما في المعنى من معانٍ سياسية وربما عسكرية.
وفي حقيقة الأمر، فإن أول ملحوظة يجب علينا التأكيد عليها في الأزمة الراهنة التي تلت إعدام السلطات السعودية، الشيخ نمر باقر النمر، أحد أهم رموز الحراك الشيعي في المملكة العربية السعودية و46 آخرين من بينهم عناصر وقيادات من تنظيم القاعدة، هي أن الأزمة الراهنة بين الرياض وطهران، لا تتعلق بالنمر أو باقتحام متظاهرين إيرانيين لمقرَّيْ السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد؛ حيث إن هذه الصور والأحداث تُعتبر محطة أو ملمح من أزمة أو – بمعنىً أدق – صراع تواتر بين الحروب الباردة والساخنة منذ ما يقرب من أربعين عامًا.
هذه الملحوظة هي الأساس الضروري لفهم النقطة الزمنية التي تمر بها العلاقات السعودية – الإيرانية، ومن دون هذه القناعة فإنه لن يكون هناك فهم سليم للأزمة الراهنة أو صيروراتها، ولعل أهم نتيجة لهذه القناعة هو أنه ينمكن التنبؤ – ببساطة – أنه لن يكون ممكنًا احتواء الأزمة الراهنة بين الرياض وطهران أو نجاح الجهود التي تقوم بها في الوقت الراهن كل من قطر والإمارات وباكستان لمعالجتها؛ فجذورها وأسبابها لا تتعلق بهذه الأحداث.
فجر يوم الثالث من يناير 2016، أقدمت السلطات السعودية على إعدام الشيخ نمر النمر، وهو أحد أبرز القيادات التاريخية، الفكرية والحركية للشيعة في المملكة العربية السعودية.
نتج عن ذلك سلسلة من ردود الأفعال الإقليمية والدولية المهمة، والتي شملت حتى أطرافًا عربية سنية في العراق ولبنان على وجه الخصوص، على وجود إدراك لديها بأن الأمر أكبر وأخطر من إعدام “ناشط سياسي” أو “معارض بارز” حتى داخل المملكة العربية السعودية، حيث يرتبط الأمر بصراع إقليمي أعمق في أبعاده، وأبعد في إطاره الزمني.
وهذا يبرر بالفعل اهتمام وسائل الإعلام الدولية بهذه الواقعة؛ فالبعض من حديثي العهد بأزمات المنطقة انتقد “كل” هذا الاهتمام بإعدام النمر، بينما الأمر شمل 46 نفْسًا أخرى، إلا أن هذه الأنفس لا ترتبط جميعها بإطار كلِي شديد التأثير وواسع في ارتباطه بأزمات وعلاقات أخرى مثل إعدام النمر، مع عدم التقليل من شأن حالات الإعدام الأخرى سياسيًّا؛ حيث إن مراقبين توقعوا أن تواجه المملكة جملةً من الأحداث الأمنية المصنَّفة في منظومة التهديدات الإرهابية، في ظل تهديد كل من تنظيمَيْ القاعدة وداعش بأعمال عنف إن أقدمت الرياض على إعدام المجموعة التي تم إعدامها.
فإعدام النمر، يأتي في سياق صراع عميق ما بين الرياض وطهران، دفعت المنطقة كلها ثمنه في السنوات الأخيرة عندما دخل البلدان حروبًا عدة بالوكالة في دولٍ عديدة في المنطقة أبرزها سوريا واليمن، وكان الثمن مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين والنازحين، وضياع مقدرات بالمليارات، وسقوط أمة بأكملها أسيرة لصراعات داخلية لا تخدم سوى النظم المرتبطة بها.
ملف الشيعة في المملكة
يبدو أن إيران وحلفاءها بالفعل يشعرون بشيء غير يسير من القلق، وهو ما بدا في كلمة حسن نصر الله الأمين العام لـ “حزب الله” اللبناني، في الرابع من يناير، والذي قال فيها إن الأمر ليس مذهبيًّا، ولا يجب أن توضع الأزمة في إطار ثنائية “صراع سُنِّي/ شيعي”.
فالإيرانيون وحلفاؤهم في المنطقة، يعلمون أن الصراع مع الرياض بهذا المنطق سوف يقود إلى جحيم لن تكون طهران أو حلفاؤها هم الطرف الرابح فيه بكل تأكيد؛ فالرياض لو أعلنت “نفير الجهاد” ضد الشيعة لن يكون بمقدور أي أحد الحديث عن وجود إيراني مستقر في المشرق الإسلامي، وتضيع مكتسبات عقود طويلة ماضية حاربت فيها طهران لتكريس مناطق نفوذها الحالية، خصوصًا في العراق وسوريا ولبنان.
كما أنه سوف تصبح الأقليات الشيعية في الخليج العربي والمشرق العربي والإسلامي في مرمى استهداف مختلف الجماعات الجهادية، حتى من تناصب منها الرياض العداء، بما في ذلك “القاعدة”.
على المستوى السياسي، تضررت وبشكل كبير، جهود إيران التي بذلتها في العامين الأخيرين لتطييع علاقاتها الإقليمية والدولية وكسر حالة العزلة التي عاشتها بفعل العقوبات الغربية عليها بسبب برنامجها النووي، بعد حوادث الحرق والاقتحام التي تمت في المقار الدبلوماسية السعودية في إيران.
فطهران في الفترة الماضية، سعت إلى استثمار الاتفاق النووي مع مجموعة الـ (5 + 1)، من أجل العودة إلى الساحة الإقليمية والدولية كفاعل رئيسي مكتمل الأركان، والتأكيد على أهمية دورها في تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة والعالم، من خلال شعار “مكافحة الإرهاب”.
جاء رد الفعل الخليجي، ممثلاً في قطع العلاقات من جانب الرياض والمنامة، وتخفيض أبوظبي لمستوى تمثيلها الدبلوماسي مع إيران، وكذلك الانتقادات الأمريكية والروسية الواضحة لموضوع الاعتداء على المقار الدبلوماسية السعودية، لكي تضئ ضوءًا أحمر أمام طهران بضرورة البحث عن معالجة للموقف، فكان تأكيد إيران أمام مجلس الأمن الدولي على التزامها الكامل بحماية البعثات الدبلوماسية لديها.
وللتنويه، ففي القانون الدولي، تُعتبر مقار البعثات الدبلوماسية، أراضٍ ومبانٍ تابعة للدولة الأخرى وليس لدولة المقر، وبالتالي فإن أي اعتداء عليها يعني اعتداء على الدولة صاحبة البعثة، وفي حالة السعودية، هناك الكثير من الأدلة البصرية التي تشير إلى أن قوات الأمن الإيرانية كانت موجودة ولم تتدخل لوقف أعمال الحرق والاعتداء في طهران ومشهد.
نأتي للجزء المهم من خلفيات الحدث، وهي الجذور التاريخية والأبعاد السياسية والمذهبية وغيرها، الأوسع للأزمة.
منذ اندلاع الثورة الإيرانية وإحكام النظام الجديد في إيران لقبضته على مقاليد الأمور في هذا البلد في فترة ما بين العامين 1979 و1980، ونظام آل سعود ينظر بعين الريبة والشك إزاء طبيعة النظام الجديد الذي أعاد إحياء ماضٍ إمبراطوري قومي فارسي ولكن في قالب مذهبي شيعي، وإزاء سياسات هذا النظام وشعاراته وخصوصًا مسألة تصدير الثورة إلى الجوار العربي، والخليج والمملكة هم أول هذا الجوار، فالجهة الأخرى للجوار الإيراني مغلق تمامًا أمام مثل هذه الأمور، في أفغانستان وباكستان، وفي مناطق جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي في ذلك الحين ثم بعد تفككه، أصبحت من أسوأ الجمهوريات العلمانية في العالم الإسلامي، وتتعامل بمنطق الشك والقسوة المبالغين مع أية حركات تمرد أو حتى معارضة سياسية.
لذلك، وفي حينه، دفعت الرياض إلى تأسيس مظلة إقليمية لحماية الأمن القومي الخليجي، فتحركت في اتجاهَيْن: الأول كان تأسيس مجلس التعاون الخليجي، والثاني دعم نظام البعث في العراق بقيادة صدام حسين، في حربه ضد إيران، لوقف مشروعات إيران الإقليمية.
بواعث الرياض كانت في ذلك الوقت وحتى الآن عديدة، على رأسها الاعتبار المذهبي، فهو صراع أصوليات بكل ما في الكلمة من معانٍ، أصولية سُنِّية وهابية في السعودية وشبه الجزيرة العربية، وأصولية شيعية في إيران، ترتكن إلى تاريخ من الصراع القومي والديني المذهبي في المنطقة، حتى قبل ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية وفتح بلاد فارس في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الاعتبار الثاني، هو صراع المصالح في المنطقة، فالثورة الإيرانية وضعت إيران كقوة إقليمية على خريطة المنطقة الجيوسياسية، طارحةً شعارات “أممية”، تتعلق بمواجهة الإمبريالية العالمية، واستعادة إرادة الأمة المسلمة ووحدتها، ومواجهة إسرائيل، رافضةً مشروعات التسوية الإقليمية التي كانت قد بدأت على يد أنور السادات في ذلك الحين.
وبالتالي؛ فقد هددت إيران الهيمنة السعودية على العالم الإسلامي، وكشفت هذه الشعارات الإيرانية عن واقع الأنظمة العربية بشكل عام، وتحالفاتها مع الولايات المتحدة، وشكلت نقطة استقطاب مهمة للغاية لملايين من الشباب العربي، الذي لا ينظر إلى الاعتبار المذهبي أو الطائفي المرتبط بإيران.
ثم جاء إعلان إيران الجديدة – في ذلك الحين – عن شعارات تصدير الثورة، لكي يتحول الأمر إلى “أمن قومي” بالنسبة لنظام آل سعود، وبدأوا في حشد الإقليم كله، لتعطيل تقدم إيران في الإقليم من خلال إعلام قوي وأداء سياسي يُحسب للخوميني وفريقه في ذلك الحين.
مكمن الخطر الأكبر في هذا الإطار هو الأقليات الشيعية في الخليج وليس في المملكة فحسب؛ حيث إن توظيف هذه الأقليات في أي بلد عربي آخر، وسقوط نظامه العربي السُّنِّي؛ يعني مساسًا بالأمن القومي السعودي، وسيكون ذلك بمثابة “حجر الدومينو” الأول، الذي يستتبعه سقوط أنظمة وبلدان أخرى في براثن الشرك الإيراني.
والأقلية الشيعية في السعودية، بدورها، لها خصوصية شديدة الأهمية؛ فهي ترتكز في أهم مناطق إنتاج النفط في المملكة، وأكبر مكامن احتياطي نفطي في العالم.
ثم دخل الصراع الصريح بين السعودية وإيران بعد ثورات الربيع العربي، فتدخلت الرياض بقسوة لقمع انتفاضة فبراير ومارس 2011 في البحرين، مع قيادة أطراف شيعية مرتبطة بإيران لها، وكان للأمر حساسية كبيرة باعتبار أن النظام الحاكم في البحرين، يعبر عن أقلية سُنِّية تحكم غالبية شيعية، وكون إيران لا تخفي – من خلال تصريحات نواب ومسؤولين وساسة، بمن فيهم المرشد الحالي للثورة الإيرانية علي خامنئي – أطماعها في البحرين، والإعلان صراحةً عن أنها جزء من إيران التاريخية.
ثم كان الملف السوري أحد أبرز ساحات الاقتتال بين الرياض وطهران، ولكن بالوكالة؛ حيث دعمت الرياض فصائل سُنِّية جهادية من بينها جماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة قاتلت النظام السوري والقوات الإيرانية وتلك التابعة لحزب الله في سوريا.
وعلى نفس النسق، خاضت الرياض حربًا عسكرية صريحة هذه المرة، بقواتها هي مع قوات دول عربية أخرى، ضد الحوثيين الشيعة في اليمن والذين يحظون بدعم إيران كذلك، بعد استيلاء هؤلاء على العاصمة اليمنية صنعاء ومدن اليمن الكبرى في يوليو وأغسطس 2014.
وتنامى القلق السعودي، وهو ما لم تخفه الرياض وعبرت عنه صراحةً، من أن الاتفاق النووي الأخير بين إيران والغرب، يمس مصالح الأمن القومي الإقليمي والداخلي للمملكة العربية السعودية، وكان يوم حزن كبير في أروقة الحكم في الرياض، عندما بدأت العقوبات الأمريكية والدولية في الرفع التدريجي عن إيران؛ لأن ذلك سيوفر موارد هائلة لإيران الغنية بالغاز والنفط، تمكنها من تمويل مشاريعها الإقليمية التي تهدد السعودية في الصميم.
ولذلك، وبالرغم من كل المتاعب التي يعانيها الاقتصاد السعودي بسبب تراجع أسعار النفط، ترفض الرياض رفضًا باتًّا فكرة تخفيض الإنتاج، لأن المستفيد في هذه الحالة، سوف يكون إيران العائدة بقوة لسوق الاستثمارات النفطية والإنتاج في مجال الطاقة.
كما وفر الاتفاق مظلة مهمة لإيران للعمل السياسي الدولي، ورفع تدريجي للعزلة عن طهران، وهو بدوره يعني حرية حركة أكبر للنظام الإيراني في المنطقة.
إذًا، ما جرى ويجري بين الرياض وطهران، أولاً ليس مفاجئًا، فهو جزء من حرب شارفت عامها الأربعين، وهو صراع وجود لا صراع مصالح مرسلة يمكن تقاسمها، ويتضمن أبعادًا دينية ومذهبية وسياسية واقتصادية، ولذلك لا يمكن التصور بحال من الأحوال، أن يتم معالجة الموقف من خلال وساطات أو غير ذلك.
ماذا بعد؟!
هنا ثَمَّة تساؤل مهم حول مستقبل الأزمة، وهل سوف تتحول إلى حرب إقليمية بين الدولتَيْن، أم لا.
وفق المؤشرات القائمة، فإنه لا ينبغي الانسياق وراء هذا الاحتمال، فهناك العديد من الأمور التي تحول دون ذلك، وإن كان من المتوقع تصعيدًا – إيرانيًّا خصوصًا – في أزمات الحروب بالوكالة التي تخوضها ضد الرياض، في كل من اليمن وسوريا.
فالأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة سوف تعمل على عدم تطور الأمور إلى حرب جديدة في إقليم مشتعل من الأساس، وكل هذه الأطراف تعمل في الأصل، في الوقت الراهن، على محاولة إيجاد تسويات للأزمات السياسية والعسكرية الحالية، كما في ليبيا وسوريا واليمن قبل إعلان التحالف عن إنهاء الهدنة غير الواقعية في حقيقة الأمر التي أعلنتها الأمم المتحدة شفويًّا وذلك إفساحًا للمجال أمام مفاوضات جنيف الأخيرة.
كما أن إيران ليس من مصلحتها خوض حرب ضد السعودية تعلم تمامًا أنها سوف تكون خاسرة فيها، ليس بالمعنى العسكري فحسب، بل بالمعنى السياسي وهو الأهم.
فإيران سوف تفقد أهم ما حققته من مكاسب خلال الفترة الماضية في صدد توسعها الإقليمي وانفتاحها على العالم من خلال الاتفاق النووي الأخير، وسوف تكرِّس نظرة العالم السلبية لها كبلد مثير للأزمات، مع احتمال تطور الوضع إلى تصفية مراكز قوى إيرانية كبيبرة ومهمة، مثل الحال في الحكومة العراقية الهشة من الأصل.
إذًا، واقع الحال يقول إن إيران لن تكون مبادِرة لأي حرب صريحة ومباشرة مع السعودية، بينما الرياض لا يوجد لديها الإمكانيات العسكرية والاقتصادية أو المبررات السياسية التي تدفعها إلى شن حرب على إيران.
فكل ما قامت به إيران في أزمة إعدام النمر، هو انتقاد الموقف السعودي، ثم اعتذرت عن واقعة اقتحام وحرق السفارة والقنصلية السعوديتين، كما حذرت من أن السياسات السعودية في المنطقة، سوف تقود إلى حرب مذهبية تعمق من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وهي مسألة لا تستطيع الرياض تحمل مسؤوليتها.
الأقرب للتصور هو استمرار إيران في خطة “إيران 2020” والتي تسير بشكل جيد من ناحية تحقيق مستهدافاتها، بالرغم من الممانعة العسكرية والسياسية السعودية في اليمن وفي سوريا وفي دول الإقليم الأخرى، والتي – أي هذه الخطة – تتضمن توسيع مناطق النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
وفي الأخير؛ فإن المتابع المدقق يدرك بالفعل أن الأمر لا يحمل احتمال حرب صريحة بين السعودية وإيران؛ حيث أشعلت سياسات البلدَيْن وخصوصًا إيران، حرب أصوليات واسعة في المنطقة، تلتهم الكثير من الأخضر واليابس فيها حاليًا، وما سوف يحدث هو استمرار كلا البلدَيْن في آليات تدافعه ضد الطرف الآخر، على نفس الوتيرة الراهنة.