ما تعيشه أمتنا اليوم عقب انطلاق الثورة العربية، من تطلع لاستعادة مجدها وريادتها التي كلفها الله بها كحاملة للرسالة الخاتمة، يحتم علينا أن ننبش الماضي الذي أوصلنا لذلك نبشًا، ونعيد قراءة التاريخ بطريقة جديدة تناسب حاضرنا ومستقبلنا، ولا نستسلم لتحليلات الماضي، وأول نقطة في تاريخ أمتنا تستحق ذلك لما كان لها من بالغ الأثر على طول تاريخها حتى يومنا هذا هي مسألة الخلاف الذي نشب بين الصحابة وسمي تاريخيًا بـ “الفتنة”.
من أكبر الكوارث التي أصابت أمتنا هي انغلاق نسقها الاجتهادي خصوصًا في السياسة والاجتماع، وإنما أصابنا ذلك بسبب عدم دراسة ما حدث بين الصحابة كتجربة إنسانية قدمت للبشرية اجتهادًا عبقريًا يبنى عليه! وقصر دراستنا للصحابة على المآثر دون التجارب والأخطاء مع أنهم بشر، بل حظر الاقتراب منها وحرمان الأمة من تفاصيلها ونقل أخبارها كاملة تحت شعار (ثم كان ما كان) الذي خطه الرواة والمحدثون بحجة الحفاظ على أعراض الصحابة.
ومن قال أن دراسة تجربة الصحابة وسبر أغوارها وكشف أخطائها ونجاحاتها والاستفادة منها يعني الوقوع في أعراضهم والانتقاص منهم؟!
لقد قدم الصحابة تجربة إنسانية فريدة فاقت عصرهم وعصورًا بعدهم، ومن يستفيد منها ومن أخطائها لا شك سيقدم أفضل من الناحية السياسية والاجتماعية وهذا تطور بشري طبيعي، وإلا فكيف سنعيد حكمًا رشيدًا؟! أما مسألة التفضيل فهذا أمر يتعلق بجميع جوانب الشخصية في التقييم، ونحن هنا نتحدث عن جانب واحد فقط وهو الجانب السياسي والاجتماعي، والتفوق فيه لا يعني التفوق في الجانب الروحي والإيماني، والتفوق في تحقيق التوازن بينهما مثلاً.
من التأسيس إلى نشأة الروابط
الإنسان بطبيعته اجتماعي، لذا عني الكثير من الباحثين بدراسة المحددات النفسية والاجتماعية للتجاذب بين الأشخاص، واستهدفت بحوثهم الكشف عن طبيعة الخصال النفسية أو الظروف الاجتماعية التي إذا توافرت لأحد الأشخاص فإنها تجعله جذابًا أي مرغوب ومحبب لدى الآخرين، وكشفت هذه الدراسات بالفعل عن وجود محددات متنوعة للتجاذب بين الأفراد أهمها:
– التقارب المكاني.
– الجاذبية الجسمية أو الكاريزما.
– التماثل في القدرات العقلية وسمات الشخصية والظروف الاجتماعية.
لذا فالجماعات الكبيرة دائمًا ما تشمل في داخلها روابط صغيرة نشأت بفعل عوامل اجتماع سابقة أوخارجة عن الجماعة الأم، ولكن تذوب هذه الروابط الصغيرة وتندمج مع المؤسس الأول وقوة الفكرة في بدايتها، وتبرز مرة أخرى مع عوامل الزمن واتساع الانتشار وزعزعة الاستقرار وضعف الفكرة المهيمنة، وضح هذا جليًا في الجيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم، وكان من أقوى الروابط هو رابط النسب بطبيعة القبيلة التي كانت معبرة عن نفسها بقوة في تلك البيئة، والإسلام بطبيعته جاء بتقوية روابط المجتمع، وهيمنة الفكرة الإسلامية والرابط الديني على كل الروابط الأخرى، لذا ظلت الروابط القبلية متمايزة معترفًا بها يتنادى بها الناس في الأنساب والمحافل لكنها قلما كانت متنافرة متصارعة، وإذا بدا شيء من ذلك كانت النبوة كفيلة بوأده في مهده كحادثة التقاتل بين الأوس والخزرج.
فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وانتشرت الفكرة، وضعفت في نفوس كثيرة حديثة عهد بالإسلام لم تلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم تأخذ عنه مباشرة، ولم تتمكن قيم الإسلام من صقلها بعد، واتسعت دائرة الاجتهاد والاختلاف التي كان يحسمها النبي صلى الله عليه وسلم، برزت الروابط القديمة في صورة روابط فكرية واجتهادية، حدث ذلك أولاً بمجرد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فتطاولت القبائل للزعامة ككندة وبني حنيفة وبني أسد وغيرهم بالارتداد عن الفكرة واستبدالها استبدالاً كليًا أو جزئيًا، ولكن الله سخر للإسلام مثل أبي بكر ليجمع الناس على قبيلة واحدة في عامين هي قريش – ذات المركزية الأبرز والعصبة الأقوى – فيما عرف بحروب الردة ولعل هذه كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: “الأئمة من قريش” ليس كما يسقطها البعض الآن على زمان مختلف تمامًا لم يعد لقريش فيه حضور فضلاً عن أن يكون لها عصبة أو مركزية.
ولعل مما ساعد على وأد الردة سريعًا رغم اتساعها هو بعدها عن صميم فكرة الإسلام فهي ردة عليه وكفر به، غير مستندة إلى بوادر تفسخ في بنية المجتمع واستقراره ولكنها مجرد طمع في الزعامة، بمعنى أنها أفكار وليدة ابتدعها مدعو الزعامة – كفكرة “ادعاء النبوة” وفكرة “منع الزكاة” – لخدمة مشروعهم الانفصالي، ولم تكن أفكار متجذرة اجتماعيًا.
وبعد أن استقر الأمر لقريش، برزت الروابط مرة أخرى ولكن من داخل قريش نفسها وبين بيوتها؛ فالبيت الهاشمي أو الأموي أو الأسدي أو التيمي أو العدوي أو الزهري بدت كلها متنافسة محتدّة على بعضها البعض، ولكن التباعد الفكري هذه المرة لم يكن سطحيًا أو ردة على صميم الفكرة الإسلامية، بل كان عميقا في تناول الفكرة الإسلامية والحفاظ على أصالتها، ومتجذرًا داخل المجتمع الإسلامي بتجذر هذه الروابط فيه، مما جعل التباعد هذه المرة أشد وطئة وأكثر استعصاءً على حسمه، نال بني هاشم قسطًا كبيرًا من هذا لخشية قريش أن يستأثروا بها احتجاجًا بالنبوة فيهم، ولظن بني هاشم أن قريشًا لا تريد أن تجمع لهم النبوة والخلافة حسدًا.
وهكذا يسوء التفاهم وتغرس بذور الظنون والخلاف والفرقة، لكن الله سخر لقريش مثل عمر رضى الله عنه على مدى 11 عامًا من عمر الخلافة، فحصر قريشًا داخل المدينة قائلاً لهم: “إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد حتى إن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس وهو ممن حبسه بالمدينة من قريش ولا سيما من المهاجرين فيقول له إن لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفيك ويبلغك ويحسبك، وهو خير لك من الغزو اليوم وإن خيرًا لك ألا ترى الدنيا ولا تراك”.
وكان يعزل منهم عن الولاية والمهام ويقول لهم إنما أعزلكم لكي لا تحملوا الناس على فضل عقولكم، ولكي لا تفتنوا بهم كما فتنوا بكم.
نجحت إستراتيجية عمر رضى الله عنه طوال فترة خلافته في الحفاظ على دمج الروابط حتى ثقل عليه الأمر، واقتربت الجماعة المسلمة للوصول إلى نقطة نسميها “انشطار الروابط” كانشطار الذرة ذات الكتلة الكبيرة التي يتضاءل استقرارها كلما زادت كتلة نواتها.
تضخم الجماعة ليس هو السبب الأساسي الذي يؤدي إلى انشطار الروابط بداخلها وتفتتها، ولكنه يسهل ذلك متى توافرت عوامل أخرى تضرب استقرار الجماعة المبني على قدرتها على تحقيق أهدافها الداخلية والخارجية.
الإشباع والتقارب هما العنصران اللذان يُبنى عليهما الاستقرار الجماعي، فالإشباع خاص بالأفراد أوالأتباع وهم هنا البلدان المفتوحة وسواد المسلمين ممن دخلوا في الإسلام، ويشمل الإشباع الشورى المتمثل في حرية الرأي والتعبير، والإشباع الوظيفي المتمثل في النشاط والمشاركة العملية، والإشباع المادي المتمثل في عدالة التوزيع، والتقارب خاص بالنخب المكونة للروابط وهم هنا وجهاء قريش ومن حولهم، ويشمل التقارب الفكري أوالاجتهادي والتقارب العملي أوالجهادي، فإذا عجزت الجماعة عن تحقيق الإشباع لأفرادها في حرية التعبير والتوظيف وعدالة التوزيع، تفرقت النخب في الاجتهاد والحركة، وبرزت الروابط واتجهت إلى “الانشطار” وكلما تعمق العجز كلما كان “انشطار الروابط” متسلسلاً حتى ينفجر المجتمع أو الجماعة بالثورة كما حدث في آخر عهد عثمان رضي الله عنه.
لقد ورث المسلمون حكم أرض عظيمة في فترة خلافة عمر رضي الله عنه، هي ميراث حضارتي فارس والروم، بعد أن تهاوى حكامها أمام شعوبهم ثم أمام الجهاد الإسلامي؛ فامتد الإسلام من كابول شرقًا إلى طرابلس غربًا ومن أذربيجان شمالاً إلى بحر العرب جنوبًا، هذا التضخم الكبير والسريع في جسم الدولة الإسلامية أدى إلى تشابك حضاري وفكري فرض على الحكومة المركزية المتمثلة في الخلافة يقظة دائمة واجتهادًا متجددًا، فعوامل الاستقرار بدت بوادر تفككها، وعنصري الإشباع والتقارب أخذا ينفلتا إلى إحباط وتباعد، فالتوسع الجهادي السريع رغم أنه رفع الإشباع الوظيفي والحركي بصورة كبيرة وشغل قطاعًا كبيرًا من المسلمين بمسألة الفتح والدعوة، إلا أنه من ناحية أخرى خلق بيئة اقتصادية جديدة قائمة على الغنيمة والخراج والتجارة الحرة شكلت نخبة اقتصادية جديدة، كما أن حركة الجهاد كانت قد أخذت في التباطؤ بعد أن بلغت مداها التوسعي الذى كان حاضرًا في مفهوم النظام العالمي لذلك العصر.
إذا نظرنا إلى تأثير ذلك على عنصري الإشباع والتقارب اللازمين لاستقرار الجماعات والأمم نجد أنه:
من ناحية الإشباع المادي، أثر بزوغ نخبة اقتصادية رأسمالية تأثيرًا عكسيًا على قضية “عدالة التوزيع” داخل المجتمع الإسلامي.
ومن ناحية الإشباع الوظيفي، أدى تباطؤ حركة الجهاد والفتح في أواخر العهد العُمري إلى فراغ وظيفي سرعان ما ملأته حركة التحديث الحضاري كمسار جديد للإشباع الوظيفي حل محل حركة الجهاد التوسعي، وهو في ذات الوقت هدف شرعي “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها”، وضرورة واقعية تفرضها المسؤولية تجاه الأمم التي حل فيها الإسلام محل حضارات قديمة كان لها اسمها المدوي، ومن هنا كانت حركة التحديث الحضاري مؤثر وظيفي جديد شغل الفكر الإسلامي في ذلك الوقت، وبذر بذور انقسامه فيما بعد بين الأنماط الفكرية الثلاثة: النمط المحافظ الذي يرفض التحديث، النمط التجديدي الناهم به، والنمط المعتدل الذي يعتبره غاية من غايات الوحي لا بد أن تتم سياقاته تحت هيمنته لا منفلتة منه، وكان للأول رموزه من الصحابة أبرزهم أبو ذر، والثاني كان له رموزه أبرزهم معاوية، والثالث كان له رموزه أبرزهم عليّ رضي الله عنهم أجمعين.
ومن ناحية الإشباع الشوري، فكانت قد كثرت الشكاية من سياسة الولاة، تلى ذلك كله بزوغ النخب من قريش للتعبير عن نفسها من خلال روابطها القديمة، وهنا اجتمعت عوامل عدم الاستقرار الجماعي مجتمعة لأول مرة باستبدال عنصري الإشباع والتقارب بعنصري الإحباط والتباعد.
هذه الحالة عبر عنها عمر رضي الله عنه في أواخر خطبه كأروع ما يعبر عالم اجتماع في عصره فقال: “ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعًا ثم ثنيًا ثم يكون رباعيًا ثم سديسًا ثم بازلاً، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان ألا وإن اللإسلام قد صار بازلاً وأن قريشًا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات على ما في أنفسهم، ألا إن في قريش من يضمر الفرقة ويروم خلع الربقة أما وابن الخطاب حي فلا، إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار”.
لقد كان عمر رضي الله عنه ذي فراسة وبصيرة نافذة فهو بحق المجدد الثاني للإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تكن قضية تشغل بال عمر في آخر حياته أكثر من هذه حتى رُئي مهمومًا يشعر به كل من حوله، فلما سُئل قال “مائة ألف لا يرضون عن والٍ ولا يرضى عنهم والٍ” يقصد الكوفة بعد أن استبدل عليها في عهده ثلاثة ولاة وشخَصَ للرابع قبل وفاته، ذلك أن الكوفة كانت أول مثال تجسد فيه هذا “الانشطار”، فضلاً عن أن قريشًا كانت قد ملت شدته وكادت أن تنفلت منه، فخط عمر ببراعة وعبقرية منقطعة النظير عند وفاته إستراتيجيته الجديدة فاعترف بالروابط وقبل التعددية في إطار إستراتيجي نسميه “ترشيد الروابط”.
هذا المقال هو الجزء الأول من خمسة مقالات بعنوان: نحو فهم جديد للخلاف بين الصحابة – دراسة لتفكيك الحكم الإسلامي والثورة الإسلامية