هناك بعض التفاصيل التي قد تندثر في ثنايا ذاكرة البعض منكم والتي مازالت واقرةً في ذاكرتي، أقصها عن سوريا في علاقة بالتسعة أشهر الأولى من اندلاع الهبة الشعبية فيها، خصوصًا وأننا في زمن تمايز فيه الحق بالباطل وكُتم فيه الحق وأهله يعلمون.
هذه الأحداث الآتي ذكرها تخص الأيام الأولى من عمر الثورة في سوريا، أيام لم يكن للإرهابيين والإرهاب حديث ولا مكان، وقبل أن تتحول سوريا إلى قاع صفصفٍ باسم القومية العربية والممانعة والمقاومة وكل تلك المصطلحات التي سئمتها النفوس وتقيأتها الأفئدة.
هل تتذكرون عاطف نجيب؟
هو ابن خالة بشار الأسد وهو الذي يشغل منصب محافظ لدرعا ورئيس لجهازها العسكري الفرعي، هذا الرجل تلقى أوامرًا من ابن خالته رئيس الدولة بأن يخمد الثورة التي انطلقت من تلك المحافظة بالنار والحديد.
مجموعة من الأطفال الدارسين بإحدى المعاهد هناك خرجوا من معاهدهم وكتبوا على جدرانها مطالب من قبيل “إصلاحات إدارية”، “لا للمحسوبية”، “لا للقبضة الأمنية”، و”لا للظلم” وأشياء أخرى، لكي لا يجدوا بعد ذلك غير النار مصبوبة، عندما قُبض عليهم وأُخذوا حيث كسرت أظافرهم على يد الجيش في دهاليز مراكز الشرطة؛ ما استوجب تدخل مشايخ درعا لدى المحافظ مطالبين إياه بإطلاق سراح الصغار على أن يعاقبوهم هم بالطريقة المناسبة، فكان رد عاطف نجيب بأن: “عودوا إلى أمهاتهم وأخبروهم بأن أطفالهن قد ذهبوا إلى غير رجعة وانصحوهن بأن ينجبن خلافهم، وإذا عجز رجالكم عن ذلك فإني مستعد لأن أنوبهم فيه”، وقد كانت تلك لحظة الحسم، حيث ثار أهل درعا بسبب هذا الرجل وتعاليه وحديثه الغارق في الفخار والأنفة والغرور، خصوصًا وأن طبيعة مشايخ هذه المنطقة موسومة بالقبلية والتعصب لأعراضهم وأطفالهم وحرائرهم.
هل أتاكم حديث الشهيد حمزة علي الخطيب؟ هو طفل سوري لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، كان فتيًا ناشطًا يحمل هم أهله من السوريين وكان يخرج من معهده الإعدادي يوميًا متزعمًا ثلة من زملائه في مظاهرات احتجاجية مناوئة للنظام، أوقفه “الجيش العربي السوري” في مخافر استخباراته العسكرية بمحافظة درعا في يوم من أيام فتوحاته ضد “أعداء سوريا”، حيث ثُقب جسده بآلة ثقب الجدران وقُطع ذكره بسكين ثم ألقي في الشارع وسط ذهول أهل درعا وارتيابهم مما جرى ويجري حتى للأطفال القصر.
إبراهيم القاشوش هو فنان شعبي من محافظة حماه وله أهازيج سورية شعبية معروفة، كان من أهمها أهزوجة “يلا ارحل يا بشار” التي انتشر صداها في كل المحافظات الثائرة لتتحول إلى مصدر إزعاج كبير لبشار الأسد رأسًا، هذا الذي قرر إصدار أوامر بنفسه لإيقاف ابراهيم القاشوش والنيل منه ليكون عبرة لمن يعتبر.
بعد مدة وجيزة وُجد القاشوش ملقى في نهر العاص من محافظة حماه وقد اقتلعت حنجرته من مكانها وشوه وجهه باللكم والركل قبل إلقائه هناك.
نحن لا نغالي إذا اعترفنا بأن قيادات من حماس كانوا في الماضي يشيدون بدور نظام الأسد في دعم المقاومة الفلسطينية، لا نغالي إذا قلنا إن بشار كان عنصرًا أساسيًا في محور “الممانعة” الذي ضم إيران في وقت من الأوقات (من باب توافق الإرادات والتقاء المصالح طبعًا)، ولا نبالغ إذا اعترفنا بأن الجيش السوري يعتبر من أقوى جيوش المنطقة العربية عدةً وعتادًا وأن سوريا كانت المنتج الأول للقمح عربيًا (احتياطي من القمح يكفي لخمس سنوات دون إنتاج).
نعترف بكل هذا ونعترف بأن استقرار سوريا في “بعض” المناحي كان يقلق العديد من الدول التوسعية التي لها مشاريعها المعلوم منها والمخبوء، إلى ذلك، فبإمكاننا الافتراض جدلاً بأن أطرافًا دولية تدخلت عبثًا في الثورة السورية، وساهمت من خلالها مباشرة أو من خلال وكلائها في إدخال المجاهدين – أو الإرهابيين إذا أردنا – من أجل المساهمة في تدمير سوريا واستنزاف جيشها وإضعافه، فلنفترض كل هذه القراءات ثم نسأل: من الذي نفذ هذه الأجندات لصالح أعداء الأمة والمتآمرين عن يدٍ وهو صاغر؟ أليس بشار الأسد؟
لقد ركزت أجهزة أمن الأسد على تصفية القادة والرواد الأوائل للثورة السورية “السلمية”، مثل غياث مطر ويحيى الشربجي، واعتقالهم وتعذيبهم حتى الموت، أو تهجيرهم وملاحقتهم، لتتحول الثورة إلى حركة عصيان مسلحة ذات طابع إسلامي، إذ إنه على امتداد تسعة أشهر من تاريخ انطلاق الانتفاضة السورية لم يثبت بدليل ولا بغير دليل أن أطرافًا خارجية مسلحة نفذتْ إلى قلب الثورة، ومع هذا فإن القتل على يد الجيش السوري كان مستعرًا، وحتى ذلك الحين مات الألوف من الشعب الأعزل، بما أوصل إمكانية التصالح بينه وبين النظام (الذي استمرأ القتل منذ أربعين سنة) إلى سدرة المنتهى، وقوض أي إمكانية للرجوع إلى وراء.
عنجهية بشار الأسد وظلمه وغطرسته هي أسباب إفلات 65% من الأراضي السورية من يديه لصالح “المؤامرة الكبرى” ومن يقودها، وجنون العظمة الذي ورثه عن أبيه هو سبب تهجير الملايين من ديارهم بعد تدميرها وقتل أكثر من ثلاثمائة ألف آخرين.
ما كان لكل هذا أن يكون لو أن نظام الأسد تخلص من السرطان الخبيث الذي نهش عقول كل حكامنا العرب لعقود، سرطان الملكية العامة للبلاد والعباد والظن بأن الله خلقنا لنكون وقفًا تابعًا لهم ولعائلاتهم ومن يسبح في فلكهم جميعًا.
ما كان لكل هذا أن يحدث، ومع هذا لا بد للشعب السوري أن ينتصر يومًا، ولكل ساقطةٍ في الحي لاقطة.