بدأت كل من المملكة العربية السعودية وإيران عام 2016 علاقات محمومة استفتحتها المملكة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران مساء يوم الأحد 3 يناير ردًا على اقتحام سفارتها في طهران بعد إعدام الرياض لـ 47 شخصًا من بينهم رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر.
قفز خام مزيج برنت في أول يوم تداول 4 يناير 2016 بأكثر من 2.5% ليصل إلى مستوى مرتفع بلغ 38.50 دولارًا للبرميل إلا أن الأسعار لاتزال منخفضة بواقع الثلثين منذ منتصف عام 2014 نتيجة التخمة في المعروض حيث يتم ضح من نصف مليون إلى مليونين برميل يوميًا أكثر من الطلب الموجود في الأسواق.
كيف ستنعكس العلاقة اقتصاديًا على البلدين؟ ومن “سيدفع الثمن باهضًا” بالمعركة الاقتصادية؟ إيران الخارجة من العقوبات الأممية والغربية بعد الاتفاق النووي والمنتشية بفرحة الانتصار أم السعودية التي تشن حرب النفط على كل من إيران وروسيا وتخوض معركة عاصفة الحزم في اليمن؟
تساهم كلا الدولتين في انهيار أسعار النفط العالمية في صراع واضح ماهيته كسر عظم ومعرفة اقتصاد من يصمد أكثر لإرضاخ الآخر بسياساته المتبعة في المنطقة، فكل منهما حريص على إنهاك الآخر حتى آخر نفس باعتبار أن النفط يشكل موردًا رئيسيًا لميزانيتهما؛ فالنفط يمثل نحو 70% من الإيردات العامة للدولة في إيران ونحو 75% في السعودية.
فإذا استبعدنا الصراع المسلح المباشر فإنّ كلا الطرفين سيحاول استنزاف الآخر في صراع غير مباشر بدءًا من خفض أسعار النفط وانتهاءً بتصفية الحسابات في اليمن وسورية.
طبيعة العلاقة بين البلدين في لغة الأرقام
يرى خبراء أنه ليس بالضرورة أن يؤثر قطع العلاقات الدبلوماسية تأثيرًا مباشرًا على اقتصاد كلا البلدين، إذ لا تربطهما علاقات تجارية واستثمارية كبيرة يؤدي انقطاعها إلى تأثر كل من اقتصاديهما.
ويتضح انقطاع التبادل التجاري المباشر بين البلدين من خلال عدم وجود شحن مباشر وعدم وضوح الصورة لديهما عن احتياجات كل طرف، بالإضافة إلى النقص الكبير في حركة التعريف بالمنتجات الوطنية لكل منهما لدى الطرف الآخر.
فلقد وُصفت العلاقات التجارية بين السعودية وإيران منذ زمن بأنها شبه منقطعة؛ إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 500 مليون دولار فقط، وفي عام 2001 قامت السعودية بتخفيض رسومها الجمركية من 12% إلى 5% ما أدى إلى ارتفاع التبادل التجاري المباشر بنسبة تجاوزت 29% خلال أغسطس عام 2015 بعد لقاءات عديدة بين رجال الأعمال في الدولتين أنتجت معالجة مستمرة لمشاكل انسياب السلع والبضائع بين الجانبين.
إلا أن المعوقات المالية حالت دون استمرار التبادل التجاري المباشر بينهما حيث غابت ضمانات الدفع من الجانب الإيراني لعدم وجود تعزيز للاعتمادات البنكية المفتوحة في إيران وفقدان الثقة السياسية الذي انعكس على ضعف في التنسيق المباشر بين رجال الأعمال من قِبل الجانبين.
وشكلت السلع الاستهلاكية نسبة 59% من واردات السعودية من إيران في عام 1996 ومثلت السلع الوسيطة نسبة 41% بينما غابت السلع الرأسمالية، أما الصادرات السعودية إلى إيران في عام 1995 بلغت نسبة 97% من السلع الوسيطة بينما السلع الاستهلاكية شكلت 3%.
وقد أظهرت دراسة من قِبل مركز التجارة الدولي بجنيف عن السوق الإيراني أن معدل التجارة بين السعودية وإيران ليس ذا أثر كبير، حيث كشفت أن الشركات والمصانع السعودية التي تود تصدير منتجاتها إلى إيران يجب أن تأخذ بالحسبان طرق الدفع المختلفة المتاحة بواسطة الحكومة الإيرانية.
إلا أن العوامل الجيوسياسية قد تدفع المستثمرين إلى توخي الحذر في التعامل مع أسواق المنطقة أو العدول عنها، فطهران تحاول جذب الاستثمارات الأجنبية من أمريكا وأوروبا للاستثمار في مجالات النفط والغاز والبتروكيماويات وغيرها بعد رفع العقوبات الأممية عنها، لذلك بعد تصاعد حدة الأزمة مع المملكة قد يواجه الاقتصاد الإيراني عزوفًا وتقلصًا في حجم الاستثمارات الأجنبية المتوقعة بسبب الأخطار الجيوسياسية التي تحيق بالمنطقة، وهذا قد يؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة تعيدها إلى سنوات العقوبات ولكن هذه المرة دون عقوبات.
تصاعد حدة الأزمة سيلقي بظلاله على الاقتصاد الإيراني الذي يواجه أصلًا تحديات جمّة؛ حيث أكد البنك الدولي أن التضخم في إيران من أعلى المعدلات في العالم ويشير المركز الإحصائي الإيراني في آخر تقرير له وجود 64 مليون إيراني في سن العمل، وعدد الملتحقين في سوق العمل 23 مليون شخص فقط، ما يشير إلى نسب عالية في معدل البطالة، قد ترتفع أكثر مع انخفاض نسب النمو في حال أنكفأت طهران لمواجهة المملكة دون النظر إلى مشاكلها المحلية.
داخليًا أظهرت تعليقات للقراء في المواقع الإلكترونية عن غضب شعبي عارم حيال الأداء السياسي لمسؤولي النظام الإيراني تجاه السعودية والقضايا الإقليمية، حيث أكد معظمهم أن قطع العلاقات بين البلدين سيعود بالضرر على الشعب الإيراني ومصالحه.
أما من طرف السعودية ستقوّض هذه الأزمة جهود المملكة عن سياسات الإصلاح الاقتصادي وتطبيق إستراتجية “التحول الوطني” الذي اعتمدها ولي ولي العهد محمد بن سلمان هذه السنة، وتوجيه الإنفاق أكثر نحو سباق التسلح ضد إيران، بالإضافة إلى زيادة توظيف المال السياسي للدول الحليفة لها مثل مصر والسودان والصومال والبحرين والمعارضة السورية.
فالمعلوم أن مصر تنتظر زيادة قيمة الاسثمارات المباشرة السعودية إلى 8 مليارات دولار وفي ظل ازدياد الأزمة المالية التي تعاني منها مصر من المتوقع أن تحظى بدعم أكثر من السعودية لاستمالة القاهرة إلى طرفها، وكل من البحرين السودان تحظى بدعم مالي سعودي سواءً فيما يتعلق بالدعم المباشر في البحرين أو الدعم من خلال الاستثمارات المباشرة في السودان.
حرب النفط
تتكئ الممكلة على النفط في موازنتها المالية إلا أنها تمتلك مدخرات وصندوق سيادي يؤهلها أن تتحمل هبوط أسعار النفط دون السعر المعتمد لها في الميزانية (90 دولارًا للبرميل) بالإضافة إلى أن تكلفة استخراج النفط في السعودية رخيصة للغاية لدرجة أن المملكة مستعدة أن تبيع النفط بسعر 10 دولار للبرميل دون أن تخسر.
وقد دخلت منذ سنوات في صراع “حرب باردة” مع إيران بعد تدخلها في دول المنطقة ومساندة النظام السوري بالمال والسلاح والعسكر في سبيل بقائه للحفاظ على مشروعها “الهلال الشيعي” في المنطقة، إضافة إلى تدخل إيران في الصراع في اليمن واستفزاز المملكة في دول الخليج بمحاولتها التخريب وتهديد الأنظمة الحاكمة من خلال دعم جهات تتبع لها، لذلك عمدت المملكة إلى اتباع سياسة خفض أسعار النفط “حرب النفط” إلى أقل مستوى ممكن من أجل الضغط على إيران للكف عن سياسة التحرش في دول المنطقة والرجوع إلى حدودها واحتواء خطر مشروعها الذي يهدد المنطقة السنية، وإخراج جنودها من سوريا والانفكاك عن دعم النظام السوري.
أبدت المملكة في الأيام الأخيرة مرونة في التحاور مع دول خارج أوبك من أجل إعادة الاستقرار لأسعار النفط، ولكن بعد اليوم فمن المستبعد أن تقوم الرياض بأي خطوة تؤدي إلى إعادة الأسعار للارتفاع حتى لا يستفيد الاقتصاد الإيراني، خصوصًا أن طهران تتجهز لاستعادة حصتها السوقية بداية هذا العام بعد رفع العقوبات عنها، لذت فقد يشهد عام 2016 حربًا صامته صفرية النتيجة تضر كلا البلدين حتى يرضخ أحدهما لقرارات الآخر.
من سيدفع الثمن غاليًا في النهاية هو الذي لن يحافظ على اقتصاده ويفشل في مشروعه الوطني في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، والرابح هو الذي سيرغم الطرف الآخر على الرضوخ لسياساته.