إحتل الفيلم الجديد “كابتن فيليبس” للمخرج البريطاني بول غرينغراس إهتمام الاوساط الثقافية العربية وخاصة الصومالية منها. الفيلم ببطولة توم هانكس ممثلاً لدور الكبتن الحقيقي للسفينة التي إعتلاها اربعة قراصنة صوماليين في خليج عدن في عام 2009، هذه كانت هي الحادثة الأولى من نوعها ضد سفينة أميركية منذ ٢٠٠ سنة. يرتكز الفيلم على مذكرات قبطان السفينة نفسها ريتشارد فيليبس والذي نجى بإعجوبة من قبضة القراصنة بعد إنقاذ قواز البحرية الأمريكية له.
بول غرينغراس مخرج الفيلم متخصص بجدارة في الأفلام المستوحاة من قصص واقعية، ظهر نجمه متجلياً في “يونيتد 93 (2007)” و “المنطقة الخضراء (2010)” الامر الذي جعله الرجل المناسب لان يجسد قصة الكبتن ريتشارد فيلبس.
تبدأت احداث الفلم في منزل فيلبس وهو يجهز نفسه للسفر الى صلالة في عُمان ليتسلم مهامه كقبطان للسفينة الامريكية “ميريسك ألاباما”، وبعدها نراه يقود سيارته مع زوجته اندريا فيلبس والتي تقول له: “تظن أن رحلاتك الكثيرة هذه تزداد سهولة ولكن العكس صحيح” في حوارٍ طبيعي ين زوجين يعانيان من هموم الحياة وشقاوة الابناء المراهقين وخوف الزوجة على زوجها. ثم يطير فيلبس من ولاية فيرمونت الى عُمان، ليأخذنا غرينغراس بعدها الى مدينة أيل الصومالية في محافظة نوغال في بونتلاند، تلك المدينة التاريخية العريقة التي إختارها القراصنة عاصمة لهم نظراً لمكانها الاستراتيجي بالقرب من خليج عدن.
هنا نجد القراصنة يستعدون ليوم آخر من العمل، حيث يرعبون الأهالي ويجمعون أنفسهم في مكان واحد لإختيار عصابتهم لهذه الرحلة. هذا المشهد يوضح أشياء قد تخفى على الكثيرين، فهو من جهة يوضح مدى خوف الأهالي من القراصنة وخاصة زعمائهم ويوضح أيضاً مدى الفقر المضقع الذي يعيشه هؤلاء الصيادون السابقون قبل ان يرموا شباكهم ويحملوا رشاشاتهم.
نلاحظ أيضاً مدى الثراء الفاحش عند قادة القراصنة إذ نجدهم في سيارات دفع رباعية فارهة وحرس خاص تظنهم وكأنهم من القوات الخاصة. وتحت ضغط هؤلاء الحرس يعود القراصنة الى البحر مرغومين لكي يسعدوا قادتهم ويظلوا هم في فقرهم تحت قهر الظلم وقوة السلاح. غرينغراس هنا قام بشيء لم يسبقه اليه احد، فلقد وضح وبدون مبالغة قسوة ما يعيشه هؤلاء القراصنة، فرغم نجاحاتهم السابقة في نهب السفن وطلب الملايين كفدية إلا انهم مازالوا كما هم، لم يتغيرب أي شيء يذكر في حياتهم من مسكن أو مأكل أو مشرب.
هنا تتسارع الأحداث، حيث يصل فيليبس الى سفينته ويبداء في تأمينها ورفع التأهب فيها خشية أن يستولي القراصنة عليها، في الجانب الآخر نلاحظ خلافاً بين القراصنة حيث أن شاباً يدعى عبدالولي موسى (والذي يمثل دوره بركات عبدي) يريد ان ينافس القائد الحالي لهذه الرحلة، ففي المحاولة الأولى للاستيلاء على “ميريسك ألاباما” نشاهد قاربين سريعين إنطلقا من المركب الأم للقراصنة بعد مشاهدة ألاباما بوحدها في قلب المحيط، تفشل المحاولة بعد أن تم ملاحظتهم وإيهامهم بأن القوات الأمريكية ستأتي لنجدة ألاباما في غضون عشر دقائق، وعليه فإن قائد القراصنة يتوقف ويعود بقاربه، أما موسى فإنه يستمر حتى يتعطل محركه.
في المركب الأم يصفي موسى حسابه مع القائد ويتخلص منه ليصبح هو القائد وليذهب الى ألاباما في الصباح بقاربٍ أسرع وأخف، آخذاً معه ثلاثة من خيرة رجاله، وهم ناجي (يمثله فيصل أحمد) و بلال (يمثله برخاد عبدالرحمن) و علمي (يمثله مهد علي) . ينجح موسى ورجاله بالاستيلاء على ألاباما ولكنهم ولقلة عددهم يصادفون مشاكل كثيرة للتحكم بشكلٍ تامٍ على السفينة. في هذه الأثناء نلاحظ مدى التخبط وعدم التخطيط اللوجيكي لما يقومون به، فنراهم يتشاجرون ويصرخون على بعضهم بشكلٍ فوضاوي، لنفهم من هذا أن هؤلاء الفتية الأربعة ليسوا الا صيادين بسطاء قادهم اليأس الى ما يقومون به بدون أي خبرة إجرامي سابقة.
ومع هذا كله فإن موسى يبدو الاكثر تمالكاً للنفس، اذ يهدئ رجاله ويقول لفيليبس: “كبتن لن يتأذى أحد إن صارحتنا وتوقفت عن اللعب معنا، نحن هنا لإتمام صفقة مالية لا أكثر ولا أقل، نحن لسنا إرهابيين.. إسترخي أيها الكبتن إسترخي سيكون كل شيء على ما يرام فأنا الكبتن الآن”
www.youtube.com/watch?v=b7HU2vWXLqU
تستمر أحداث الفيلم متسارعة بشكلٍ إثاري يجعلك لا تصدق أن هذا حدث فعلاً بفضل عبقرية غرينغراس الإخراجية وخبرة هانكس في تصوير هلع فيليبس ومحاولاته التخلص من القراصنة والنجاة بسفينته وطامها، ولكن ما جعل الفلم مختلفاً عن غيره هو إستخدام المخرج لممثليين صوماليين أكفياء من أمريكا وبريطانيا. بعض هؤلاء الممثلون ذو خبرة تمثيلية في المسرح وبعضهم يدرس التمثيل ولكن معظمهم لم يمثل قط مثل بركات عبدي من مدنة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا الأمريكية، والذي حصل على الدور بدون أي خبرة مسرحية او تمثيلية مسبقة، ومع هذا أجاد الدور بشلٍ رائع.
وهذا شيء آخر يضاف الى محاسن هذا الفيلم، إذ أنه لم يكتفي بقص قصة القراصنة بكل موضوعية بل إنه يظهر لنا أن الصوماليين ليسوا فقط من القراصنة الذين يرعبون البحر أو من الشباب الذين يفجرون ويقتلون ويكفرون. بل هناك العديد من الأمثلاة المضيئة أمثال بركات وأصدقائه الذين حاولوا جاهدين إتقان أدوارهم بكل حرفية وبإمتياز، وكل ما إحتاجوا إليه هو أن يعطوا فرصة لإظهار مواهبهم وأن يثق أحدٌ بهم وبقدراتهم.
قصة بركات عبدي نفسها تستحق أن تروى في رواية أو في فيلم، إذ انه عايش الحرب الأهلية ومصائبها منذ أن كان فييالسادسة من عمره، يذكر هنا في إحدى لقائاته التلفزيونية أنه يذكر أصوات طلقات الرصاص وأنه هو وأخوه كانا يلعبان معاً لعبة تخمين إسم السلاح الذي تطلق منه كل رصاصة! وها هو اليوم يعيش “الحلم الأمريكي”
www.youtube.com/watch?v=01QDlnCZAH8
خلاصة القول هي أن القرصنة في الصومال كانت مخرجاً للكثير من الشباب والأسر المنهكة والتي ضاقت بهم هبة البحر بفضل السفن العملاقة التي نهبت خيرات وطنهم البحرية ومنعتهم في بعض الاحيان حتى من الصيد بجانبهم، فأصبح هؤلاء الصيادون ‘خفر سواحل’ بزعمهم، ولكن الامر تفاقم حتى أصبحت القرصنة عملاً ممنهجاً يديرها كبار زعماء المافيا والجريمة المنظمة في إفريقيا وآسيا وأوروبا وربما حتى في أمريكا نفسها، وهؤلاء السادة هم من يستلمون الملايين ويرسلون للقراصنة ما هو أقل من واحد في المئة من أموال الفدية.
ففي وطن أنهكته الفوضى أكثر من إنهاك الحرب له، لا يمكنك ان تستغرب وتقول لماذا يفعل هؤلاء ما يفعلونه، فما الاختيارات المتاحة لهم؟ فلا دراسة ولا فرص عمل لتأمين قوت عوائلهم، ولا حكومة قوية يمكنها إجتثاث القبلية والجشع من المجتمع. وهذا تماماً ما يحاول الفيلم إيضاحه، فهو لا يتعالى على القراصنة بإظهارهم كوحوش تمص دماء الابرياء بإنتظار المخلص الأمريكي كما عودت ل السينما الهوليوودية، بل ورغم إختلافك وكرهك لما يقومون به هؤلاء يجعلك الفيلم تتفهمهم وتتمنى أن لا يضعك القدر في أقدامهم، تاركاً المشاهد في حالة من التفكير والمساءلة لما تقوم به دوله حيال أمر القراصنة. هذا الأمر يتجلى في حوارات موسى مع فيليبس، حيث يقول الاول للآخر: “حلمي هو أن أذهب الى أمريكا وأشتري سيارة وأعيش في نيويور” ولكنه في قلب المحيط يصداد السفن ويخاطر بنفسه بدون أي تردد.
ولعل بركات هو من حقق حلم موسى بشلٍ أو بآخر، إذ مثل جنباً لجنب مع أشهر ممثلي هوليود، توم هانكس، بدون أي خبرة مسبقة في التمثيل وبدون أن نشعر أي فرق بين أدائه وأداء هانكس، لا بل ينافسه في الصدارة وفي بطولته للفيلم. تراجيديا هذه الحياة الصعبة تجعلك تقول لنفسك: “ماذا لو”، ماذا لو أن الحرب الأهلية الصومالية لم تحدث، لو أن موسى ورفاقه لم يركبوا البحر، لو أن الصوماليين أعطوا فرصة كافية للحياة الكريمة وإثبات النفس.