وظيفة الجيوش في دساتير الدول المتقدمة ليس قمع الداخل أو الدفاع عن شخص معين أو الحزب الحاكم، بل وظيفتها حماية البلاد والعباد من كل شر خارجي يحدق بالدولة، وبالتالي يطمئن المواطن ويعيش بحرية وراحة نفسية، وغالبًا ما يتدخل الجيش في الدول المتقدمة لحماية المواطنين ومساعدتهم وقت حدوث الكوارث والمصائب والحوادث الطبيعية ويكون له دور إيجابي في تخفيف الأضرار ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه؛ ما يجعل المواطن يشعر بالفخر لأنه يرى فعليًا مشاركة جيشه في حمايته من الأخطار سواء كان مصدر الخطر كارثة طبيعية أو عدوان خارجي.
أما بالنسبة للدول العربية فإن بوصلة الجيوش انحرفت عن مسارها الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه، فبدل أن يكون هم الجيش حماية المواطن أصبح همه حماية الحاكم وعائلته وحاشيته وحزبه، وبالتالي فقد القدسية التي كان لا بد أن يمتلكها وفقد احترام المواطنين له، لأنه أثبت أن حماية الحاكم عنده أولى من حماية المواطنين، وقتل وقمع الملايين من الناس أمر طبيعي في سبيل البقاء على سلطة شخص واحد وهو الحاكم، وبالتالي أصبح هناك عداوة بين الجيوش والشعوب، وبدل أن يطمئن المواطن لرؤية الجيش أصبح يرتعب ويخاف لأنه يعلم أن هذا الجيش لم يعد جيشًا وطنيًا كما في باقي الدول المحترمة، بل ولم يكن جيشًا وطنيًا أصلاً منذ البداية والتأسيس، كما يقول المفكر الإسلامي حاكم المطيري “الجيوش في عالمنا العربي أعدت منذ احتلال المنطقة بإشراف بريطاني ثم أمريكي وروسي لا للدفاع عن الأمة بل لمواجهة شعوبها عند انتفاضتها”.
وكان الكثير من المتابعين ينكرون هذا الأمر حتى شاهدوا بأعينهم موقف الجيوش من الثورات والتحركات الجماهيرية، عندما وقفت أغلب الجيوش العربية في صف الشخص الواحد والحزب الواحد ضد الملايين وأعلنوا ولاءهم واستعدادهم لحماية هذا الشخص حتى لو تطلب الأمر تدمير البلاد وتشريد الملايين من العباد كما نشاهد في سوريا.
يصادف أمس السادس من يناير عيد الجيش العراقي، والعجيب أن هناك من يحتفل بعيد تأسيس هذا الجيش، رغم أنه من المعروف أن تأسيسه كان بإشراف مباشر من السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق خلال الانتداب البريطاني سنة 1921 ولذلك من المستحيل أن يعمل هذا الجيش لحماية المواطنين لأن أصل فكرة التأسيس كانت بريطانية ولحماية مصالحهم في المنطقة كباقي الجيوش، ولذلك من الطبيعي أن نعرف أنه في سنة 1936 اشترك هذا الجيش في أول انقلاب عسكري حصل في العراق.
يعيش في العراق ثلاثة مكونات رئيسية هم الشيعة والسنة والكرد، ولكن هذا الجيش لم يكن أبدًا جيشًا لجميع المكونات حتى يقف الجميع وراءه ويفتخرون بوجوده، بل دائما كانت بوصلته منحرفة لأنه أصبح جيش حزب معين يسعى لقمع الأصوات المعارضة وتثبيت دعائم هذا الحزب في الدولة والحكم.
عندما كان يحكم حزب البعث في العراق كان الجيش عبارة عن أداة من أدوات الحزب يتم استعماله لتصفية الخصوم والمعارضين وقمع وتدمير الأماكن التي تخرج عن طاعة الحزب بالتالي أصبح الجيش حزبيًا وليس وطنيًا وارتكب الجيش العديد من المجازر بحق الكرد والشيعة بحجة حماية مبادئ الثورة والبعث، ونفس الأمر تكرر بعد دخول الأمريكيين للعراق وحل الجيش العراقي وتشكيل الجيش الجديد بغطاء مذهبي جعل من الجيش أداة لحماية الطغمة الحاكمة وأصبح استهداف المدن السنية من اختصاصات هذا الجيش مع دعم الميليشيات في عملياتها ضد المدنيين أو المعارضين للحزب الحاكم!
وكل ذلك حصل بسبب انحراف بوصلة الجيش العراقي وباقي جيوش المنطقة لأنها لم تُشكل منذ البداية لحماية الوطن والمواطن من الأعداء والأخطار الخارجية، بل تشكلت لقمع الداخل وتصفية الخصوم وجعله أداة رخيصة بأيدي الأحزاب الحاكمة، وعندما تفقد الجيوش البوصلة تفقد الاحترام والتقدير والقدسية عند المواطنين وتصبح عدوًا يمنع المواطن من استنشاق الحرية والعيش بأمان واطمئنان، ولايمكن أن يكون هناك أمان واستقرار وتطوير إلا بوجود الجيوش الوطنية التي تقدس الوطن والمواطن ولا تسمح لنفسها بالتدخل في الصراعات السياسية الداخلية بل تسعى لتأمين الجو الديموقراطي حتى يكون هناك منافسة سلمية بين جميع الأطراف بدلاً من دعم طرف ضد آخر وجر البلاد لحروب أهلية ودمار شامل.