ما بين العمليتين الانتخابيتين في يونيو 2015 ونوفمبر 2015 تقلص الحديث عن النظام الرئاسي من قِبل قادة ومنظري حزب العدالة والتنمية بشكل كبير وقد برر البعض ذلك حينها بتراجع أولوية هذا الموضوع مقابل موضوع الخدمات في ذهن المواطن أو الناخب التركي مما ظهر في نتائج الانتخابات التي حقق فيها الحزب نسبة 40% ولم تؤهله لتشكيل الحكومة بمفرده، ومن زاوية أخرى فقد أشار قسم آخر أن هذا الموضوع كان له أثر سلبي على الناخب أيضًا.
لكن اليوم وبعد مرور قرابة شهرين على انتخابات نوفمبر 2015 واستنادًا على الحالة التي لم تستطع فيها الأحزاب التوصل إلى تشكيل حكومة ائتلافية بأي شكل من الأشكال وبعد الثقة التي اكتسبها حزب العدالة والتنمية في انتخابات نوفمبر الماضي، بدأنا نسمع من جديد وبنغمة مرتفعة نسبيًا عودة الحديث عن النظام الرئاسي في تركيا وأهميته للبلاد، وفي الحقيقة فقد بدأ الحديث بشكل خجول منذ اليوم الأول لنتائج الانتخابات التي حقق فيها الحزب نسبة 49% لكن مع دخولنا لعام جديد ومن خلال الاطلاع على الجدل الدائر خاصة في المنابر الإعلامية التركية فإنه من الواضح أن ملف النظام الرئاسي بدأ يأخذ أمكنة مهمة في الأجندة السياسية اليومية في تركيا إن لم يكن على رأس الأجندة.
ويلحظ هنا أنه في الوقت الذي راهن فيه بعض صانعي القرار في الحزب على التوجه للانتخابات المبكرة فإن أعينهم لم تغفل عن البدء من جديد في مرحلة إقناع المواطن التركي بأهمية النظام الرئاسي وضرورته لتقدم وازدهار البلد.
لقد أشار بعض الباحثين الأتراك أن أول مرة بحث فيها النظام الرئاسي على صفحات الصحف التركية كان في الخمسينات فيما دافع البعض عنه في السبعينات، لكننا نلاحظ أن حزب العدالة والتنمية قد بدأ التنظير للنظام الرئاسي منذ حوالي 4 سنوات بشكل خافت وفي أروقة الحزب ثم تطور الأمر بعد أن فاز الرئيس رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية في أغسطس 2014 وقد تم التنظير بشكل فاعل للنظام الرئاسي منذ بدء الحملة الانتخابية لانتخابات يونيو 2015 البرلمانية، ولكن ربما إضافة لعوامل سياسية داخلية وخارجية أخرى لم يكن عامل الزمن في صالح الحزب لكي يقنع المواطن التركي به ولكي يضعه على قائمة أولوياته من جهة وفي الرد أيضًا على الحملة القوية التي شنتها أحزاب المعارضة عليه معتمدة على انتقادات النظام الرئاسي كوقود لهذه الحملة من جهة أخرى واستخدام تفاصيل مزعجة كان منها القصر الرئاسي وعدد غرفه، حتى إن كمال كلتشدار أوغلو زعيم المعارضة ادعى أن بعض الحمامات في القصر الرئاسي مرصعة بالذهب وقد كان لهذه الدعاية أثر سلبي على حزب العدالة والتنمية في انتخابات يونيو.
اليوم يبدو أن هناك 3 سنوات على الأقل للتنظير للنظام الرئاسي وهي تعد كافية ومريحة للعمل من أجل إقناع المواطن التركي به على قاعدة أنه النظام الأنسب والأفضل لطموحات تركيا الجديدة وتطلعاتها كما أنه يعد أحد الأهداف الكبرى لإستراتيجية حزب العدالة والتنمية التي لا يبدو أن الحزب سيتراجع عنها، وهذا لا يعني أن المعارضة ستتوقف عن انتقاد النظام وربطه بشخص أردوغان واتهامه بالسير بالبلد إلى الديكتاتورية مع بعض التفاصيل الأخرى المتعلقة بوجهة نظر الرئيس حول موضوع الفائدة مثلاً وغيرها من القضايا الأخرى.
فمع بدء التنظير للنظام الرئاسي بقوة مطلع 2016 والمتوقع أن يستمر فقد بدأت المعارضة أيضًا حملتها على النظام الرئاسي بنفس القوة ومحاولة تصويره بأنه ردة عن الديمقراطية، وربما يلاحظ المتابع للصحافة التركية وأعمدة الكتاب أن هناك شبه توافق لدى كتاب الصحف المعارضة وكأن كتاباتهم تخرج من مشكاة واحدة؛ فأغلبهم توافقوا على تشبيه أردوغان بهتلر بعبارات مختلفة، أو لعلهم قلدوا أو أعجبهم ما أوردته الصحافة الغربية مثل صحيفة التايم وغيرها من تشبيه أردوغان بهتلر، ولكن ينبغي الإشارة إلى أن أغلب منتقدي النظام الرئاسي ينطلقون في هذه المعارضة من واقع انتقادهم لحزب العدالة والتنمية أكثر من انتقادهم للنظام الرئاسي، وسيظهر هذا الأمر بوضوح إذا افترضنا أن حزبًا آخر كحزب الشعب الجمهوري هو الذي دعا لتطبيق النظام الرئاسي.
وفي ذات السياق وكما أشرنا فإن جدلاً كبيرًا يدور الآن حول فوائد النظام الرئاسي وأهدافه قد انطلق بقوة مع مطلع العام ما بين معارض يقول إنه يتجه بالبلاد إلى سلطة الفرد الواحد وما بين مدافع ينتقد هذا الطرح ويقول لماذا لا تنظرون في النظام الرئاسي إلا إلى هذا البعد ويدعون للنظر في الأنظمة الرئاسية الناجحة في العالم.
لقد كان حزب العدالة والتنمية ذكيًا في تهدئة الحديث عن النظام الرئاسي بين العمليتين الانتخابيتين فقد فوت على المعارضة استخدامه كوقود في إذكاء نار التحريض ضده وها هو يبدأ عرضه من جديد بأشكال إعلامية وأكاديمية مختلفة لتوسيع دائرة القناعة به وسنرى هل سينجح في هذا وتختار تركيا أن يحكمها نظام رئاسي أم سيبقى هذا هو الحال؟ صحيح أنه تفصلنا عدة سنوات عن هذا لكنها سنوات قليلة ستمر سريعًا كما يحدث دائمًا عند النظر في أعمار الدول.