القرار السعودي الذي بدأ 2016 بحملة إعدامات كان نتيجةً لحركة مدروسة. فالرياض توقعت بلا شك أن الباسيج سيرتكبون بحق الدبلوماسيين السعوديين ما ارتكبوه بحق ممثلي الحكومات الأخرى التي أثارت غضب آية الله. لكن السعوديين استعدوا لهذا الأمر بشكل جيد، من خلال ضمانهم لموقف دبلوماسي عربي مساند.
هذه ليست المرة الأولى التي تجد فيها إيران نفسها – وهي التي تفاخرت بأنها دائماً ما تتقدم على خصومها بخطوة وأنها أذكى منهم – متفاجئة بالقرارات السعودية. فقد حدث هذا أيضاً عندما أعلنت الرياض بدء حملتها العسكرية على الحوثيين، وهو ما أربك إيران التي كانت تعتقد أن السعودية مازالت تتحرك بحذر وعبر “ستارة من الخرز”.
لكن السعودية لعبت دوراً مختلفاً هنا. فقد أعلنت موسماً مفتوحاً من الصراع الإقليمي مع إيران، وهذا يتجاوز الخطوات السابقة التي كانت قائمة على أعمال عدائية بالوكالة ضد الأطراف التي تدعمها طهران مثل الحوثيين في اليمن أو بشار الأسد في سوريا.
عنوان الصراع الإيراني السعودي اليوم هو “العداوة على المكشوف” وتحدي النفوذ العسكري والسياسي الإيراني في دول الإقليم، وقد تجاوز التصعيد مجرد إجراء بُني عليه وقف كافة أشكال النقل التجاري والجوي بين البلدين، فمجرد استضافة الحجاج الإيرانيين المسلمين في موسم الحج بات أمراً مشكوكاً فيه.
المملكة تحت حكم الملك سلمان مستعدة للدفاع عن مصالحها بالقوة، ووجود حلفائها تركيا وقطر والدول العربية عموماً سيسهل مهمتها في مواجهة إيران وحليفتها روسيا. كما أن السعودية لم تُشعر حليفتها أمريكا بعزمها قطع العلاقات مع إيران إلا قبل وقت قصير، فهي لم تعد تنتظر موافقة “راعيها ومزودها العسكري الأساسي”، بل اعتادت التصرف بمفردها.
محادثات وقف إطلاق النار في سوريا واليمن ستتوقف، وستمضي السعودية في سياستها الرامية لتقييد “قدرة إيران” على الدخول للأسواق العالمية عبر سلاح النفط وإبقائه بأدنى مستوى له.
لو كان ما حدث مخططاً له من قبل، فلمَ يجري تنفيذ الخطة الآن تحديداً؟ و45 من بين الذين نفذ فيهم حكم الإعدام هم مواطنون سعوديون، وشملت الدفعة مواطناً تشادياً وآخر مصرياً. وكان 43 منهم من السنة، كثيرون منهم من مقاتلي القاعدة الذين صدرت بحقهم أحكام بالإعدام وكانوا ينتظرون التنفيذ منذ مدد متفاوتة يعود بعضها إلى عام 2004. كان إعدام هؤلاء ورقة بإمكان الرياض أن تلعبها في أي وقت منذ آخر موجة تفجيرات شنتها القاعدة في عام 2012. ولكن لمَ جرى اللعب بالورقة الآن؟ وما الرسائل السياسية التي أرسلت؟ ولمن وجهت؟
تاريخياً، واجهت السعودية مصدرين من التمرد الداخلي: الأقلية الشيعية، التي يقطن كثير من أبنائها في المنطقة الشرقية، والجهاديين السنة. إلا أن واحداً فقط من هذين المصدرين هو الذي يهز النظام. يجمع معظم المحللين على أن الاحتجاجات الشيعية لا تملك القدرة ذاتها. من بين السُّنة الـ43 الذين أعدموا، ركزت وسائل الإعلام المملوكة للدولة على واحد فقط هو فارس الشويل الزهراني.
وُصف الزهراني بأنه المنظر الذي وقف وراء سلسلة الهجمات التي استهدفت الأجانب ومراكز الشرطة ومرافق النفط وتسببت في قتل المئات. من خلال إعدام “داعية التكفير” يكون النظام قد صفى حسابه مع منافس له في المعتقد. فطبقاً للسلفية الوهابية، لا يملك صلاحية التكفير سوى داعية مكلف من قبل الدولة، ويقصد بالتكفير اعتبار شخص ما كافراً أو خارجاً عن الملة. ولعل المقصود من إعدامه هو طمأنة الأغلبية السنية.
ولكن ثمة رسالة ضمن ذلك موجهة إليهم، رسالة تأتي في عام يرفع فيه الدعم عن أسعار الوقود وتخفض فيه مكافآت العمل الإضافي في المؤسسات التي تديرها الدولة، ويفرض على الجميع دفع المزيد من الضرائب بما في ذلك ضريبة معينة على المبيعات.
كان محتماً أن يثير إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر موجة من الاحتجاجات في الخارج، خاصة أن إيران كانت قد بذلت جهوداً كبيرة لتسليط الضوء على قضيته. وانسجاماً مع الموقف الإيراني، سارع كل من حسن نصر الله، رئيس حزب الله، ومقتدى الصدر، رجل الدين العراقي، إلى التنديد بإعدام النمر.
كانت فرص إجراء محادثات جوهرية بشأن سوريا تلقت ضربة قاتلة؛ بسبب المزاعم بأن غارة جوية روسية هي التي قتلت زهران علوش، قائد جيش الإسلام. وذلك أن زهران علوش وافق على الانخراط في عملية السلام السعودية، في الوقت الذي نأى غيره من قادة الميليشيات السورية بأنفسهم عنها.
يبدو أن روسيا أرادت من خلال قتلها علوش، نيابة عن الأسد، أن تثبت أنها قادرة على إعادة تشكيل البيئة التفاوضية، من خلال تصفية من لا تريد لهم المشاركة في العملية السياسية، وإبقاء من ترغب فيهم.
فرص نجاح المحادثات باتت في عداد الأموات. بدليل ما يشاع بأن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى الرياض تمخضت عن إبرام صفقات لشراء سلاح وعربات مصفحة تركية بمليارات الدولارات.
من المتوقع الآن أن شدة المعارك ومستوى القتل، اللذين تصاعدا منذ أن بدأت الطائرات الحربية الروسية تقصف من الجو أهدافاً تعود بشكل أساسي إلى المعارضة، سيزدادان سعاراً على الأرض أيضاً. وبما أن خطوط المواجهة على الأرض لم تتغير إلا قليلاً فإن ذلك يعني شيئاً واحداً، ألا وهو أن الصراع سيمتد وسيطول أمده. وأي حديث عن أن الحرب الأهلية توشك أن تنطفئ جذوتها من خلال إبرام اتفاقيات محلية لوقف إطلاق نار بات الآن مجرد صدى لثرثرة متفائلة من الماضي البعيد.
بالنسبة لواحدة على الأقل من القوى المتدخلة – روسيا وإيران من جهة وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر من جهة أخرى – ستتحول سوريا إلى أفغانستان أخرى، وسيتوجب على قوة أجنبية واحدة الانسحاب من هذه الحرب وهي تجر ذيول الخزي والعار.
يبدو أن المملكة العربية السعودية، التي تلقى سياستها الخارجية دعماً في أوساط الأغلبية السنية من سكان المنطقة، واثقة من أنها لن تكون تلك القوة التي ستضطر إلى ذلك.
من شأن ذلك أن يعمّق الصراع أكثر فأكثر في المنطقة خلال عام 2016، وإذا كان عام 2015 عنيفاً، فإنه يتوقع للعام الحالي أن يكون أشد عنفاً. كما أن التحرك السعودي سيشكل تحدياً لمصر، حيث إن السعوديين الذين يمولون حكم العسكر في مصر بقيادة عبدالفتاح السيسي تسامحوا حتى الآن إزاء التجاوب البارد الذي أبدته مصر تجاه المملكة العربية السعودية في كل من اليمن وسوريا.
سيكشف القادم من الأيام إلى أي مدى سيستمر السعوديون في تساهلهم هذا، خاصة إزاء التقارب المصري مع كل من روسيا وإيران.
من أي زاوية نظرت إلى الموضوع ستجد أننا بصدد حراك لن يسهل على أي طرف الانسحاب منه سريعاً. المجازفات كبيرة جداً على المستوى الدولي، وما من لاعب في هذا الصراع إلا ويشعر بأنه استثمر فيه الكثير؛ فلا يسهل عليه الانتقال مباشرة إلى الخيار العكسي ليعود إلى الخلف. وكل حكومة من الحكومات المشاركة لديها ما يشغل بالها ويشعرها بالخطر داخلياً.
المساحة المتاحة للتنازل ضيقة جداً، ولكن في نهاية المطاف لا مفر من وضع خط لتوازن القوة ما بين إيران والمملكة العربية السعودية. وهذا ما سيتحقق الآن من خلال اختبار دولي للإرادات يجري في منطقة تعج بالأسلحة، وهي أسلحة يشهرها أناس يعرفون جيداً كيف يستخدمونها.
المصدر: هافنغتون بوست