لم يتأخر نظام الخرطوم في طرد السفير الإيراني و كامل البعثات الدبلوماسية الإيرانية من السودان و واستدعاء سفيرها من طهران على خلفية التوتر الذي اعقب مهاجمة الممثليات و المصالح الدبلوماسية للسعودية بإيران بعد إعدام السلطات السعودية للشيخ الشيعي نمر باقر النمر. بل و سارع نظام الانقاذ لتبليغ السعودية بالقرار عبر إتصال وزير الدولة برئاسة الجمهورية السودانية و مدير مكتب الرئيس برئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء الفريق طه عثمان الحسين بمحمد بن سلمان ولي و لي العهد السعودي. و رغم توتر العلاقات بين الخرطوم و طهران منذ الثلث الأخير من عام 2014 إلا أن القرار السريع بقطع العلاقات و طرد السفير شكل مفاجأة للمراقبين و المحللين داخليا و خارجيا. في هذا المقال نستعرض صعود و هبوط العلاقات السودانية الإيرانية حتى وصولها لمواجهة عسكرية غير مباشرة على الأراضي اليمنية.
منذ أستقلاله عام 1954 حافظ السودان على علاقاته مع إيران بشكل مستقر قبل و بعد الثورة الإسلامية فيما عدا فترة الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات حيث أيد نظام نميري الجانب العراقي وقتها, لكن ما لبثت أن عادت العلاقات لطبيعتها بعد الإطاحة بجعفر نميري في العام 1985. ازادت علاقة الخرطوم قربا مع طهران بعد تولي نظام الأنقاذ مقاليد الحكم في العام 1989 لعدة أسباب منها تبادل العداء مع الغرب و خصوصا الولايات المتحدة, الخلفية الأسلامية للنظامين رغم اختلافهما الطائفي و كذلك العزلة الدولية المفروضة على البلدين سياسيا و إقتصاديا جعلت النظامين يجدان في بعضهما شريكا إستراتيجيا.
مما ساعد فيه نظام الثورة الإسلامية في إيران شريكه في السودان تمثل في وساطة الرئيس الاسبق هاشمي رفسنجاني في تجاوز الخلافات بين الخرطوم و كلاً من كمبالا و أسمرة. أقتصاديا وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى حوالي 150 مليون دولار, فقد لا يكون هذا المبلغ كبيرا و لكنه بحسب عبد الرحمن خليل المستشار التجاري السابق في سفارة الخرطوم بطهران بأنه بسبب العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على الجانبين و كذلك عدم توفر خطوط جوية او بحرية مباشرة بين البلدين و سوء علاقة النظامين مع الدول المحيطة بهما. ثقافيا و إجتماعية كان هناك تبادل محدود بين الطلاب و كذلك دورات تأهيل للصحفيين, و لعب المركز الثقافي الإيراني في الخرطوم دور مهما في التقارب بين الشعبين قبل إغلاقه في 2014. ذلك التقارب الثقافي لم يرق لكثير من السودانيين و كذلك لدول الجوار السنية فبدأت بعض وسائل الأعلام المحسوبة على الخليج بمحاولة تخويف السودانيين من محاولة تشيعهم و تغير معتقداتهم فظهرت محاولات تململ شعبية ضد ذلك التقارب الثقافي ظهر في مهاجمة اجنحة دور النشر التي تعرض كتب إيرانية في معارض الكتاب المختلفة و لعل اكثرها حدة ما حدث في معرض الخرطوم الدولي للكتاب 2006 حيث هدد بعض المواطنيين بحرق جناح الكتب الإيرانية بسبب كتب نشر المذهب الشيعي. عموما وصل التعاون السوداني الإيراني السياسي، الاستثماري، العسكري، والاستخباراتي، لدرجة متقدمة جعلت الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد يؤكد عند زيارته للخرطوم عام 2007 أن العلاقات بين الدولتين لا سقف لها.
التقارب العسكري و أستخدام إيران للسودان كطريق خلفي لإيصال السلاح و الدعم اللوجستي لحركة حماس و حزب الله دفعت إسرائيل لتوجيه عدة ضربات جوية لمواقع داخل الأراضي السودانية. أخرها كان ضرب مصنع اليرموك للأسلحة جنوبي الخرطوم عام 2012 مما جعل إيران ترسل بوارج عسكرية لسواحل السودان الشرقية و كذلك عرضها إنشاء منصة دفاع جوى على ساحل البحر الأحمر للحد من عمليات القصف الإسرائيلي للأراضي السودانية، و أن كان ايضا أحد اغراضها هو الضغط على السعودية من حدودها الغربية. في ذات الوقت أصبح الرئيس البشير مطارد جنائيا و لم يجد أي دولة تقبل إستضافته عدا إيران قطر و الصين. كل ذلك اوصل علاقات السودان مع دول الخليج بإستثناء قطر لأدني مستوياتها مما حدى بالسعودية بمنع مرور طائرة البشير الرئاسية فوق أجوائها في طريقه لطهران للمشاركة في تنصيب الرئيس الإيراني حسن روحاني عام 2013. أيضا اوقفت الرياض تعاملاتها المصرفية مع البنوك السودانية، و قلصت وارداتها من اللحوم السودانية.
و لكن مع قدوم العام 2014 شهد موقف السودان من إيران تحولا مفاجئا بدأ برفض طلب إنشاء منصة الصواريخ المذكورة إعلاه و كذلك إغلاق المركز الثقافي الإيراني بالخرطوم و تجميد كل أنشطته. و إن كانت كل القارير الرسمية قد بررت ذلك التحول و الجفاء بمحاولات إيران نشر التشيع بين السودانيين و ظهور بعض المظاهر الغير مألوفة في السودان كالاحتفالات بموالد أئمة أهل البيت. لكن كل العارفين ببواطن الأمور يعلمون أن السبب الحقيقي هو الهبوط الحاد الذي عاني منه إقتصاد السودان خصوصا بعد إنفصال الجنوب و إشتداد العزلة على نظام الأنقاذ التي زادت بعد الأطاحة بنظام الأخوان المسلمين في مصر و وصول السيسي الحليف الاصيل لدول الخليج مما جعل السودان يعيش في دائرة مغلقة من الدول التي يعاديها. ظهر ذلك جليا في تصريح البشير “إن الحصار الاقتصادي على السودان هو ثمن موقفنا من قضية القدس، وعلاقاتنا مع إيران”.
بدأ نظام البشير يرسل إشارات تقارب لدول الخليج قبل انتخابات 2015 الرئاسية التي كان فوز البشير بها مضمونا ليؤكد أن النظام مقبل على حقبة جديدة خصوصا أن النظام تخلص من قدامي وجوهه الأسلامية كنائب الرئيس على عثمان محمد طه و مساعد الرئيس نافع علي نافع و كذلك تعيين إبراهيم غندور وزيرا للخارجية و هو الذي لا ينتمي للتيار الأسلامي القديم داخل الحزب كسابقه علي كرتي.
و كان آخر حدث أكد على مغادرة السودان لفريق إيران و وانضمامه رسميا لفريق الخليج هو إعلان السودان مشاركته ضمن تحالف ما يمسى إعلاميا بعاصفة الحزم و عملياته العسكرية ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من طهران في اليمن. قرار المشاركة في الحرب كان سريعا بدون الرجوع لمجلس الوزراء او البرلمان و قبل أسابيع فقط من الأنتخابات الرئاسية. و المفاجأة كانت في بيان إعلان مشاركة القوات السودانية في تلك الحرب, حيث لم يتطرق البيات لليمن و ما تعاني منه او حتى القضاء على التمرد هناك بل كان البيان يدور حول أمن السعودية و كيف أن السودان لن يدخر جهدا في حماية السعودية و المقدسات الأسلامية هناك.
عموما السياسية لا تعرف المنطق و تقوم على المصالح و التحالفات لكن ما يحيرنا كسودانيين و حتى يشعرنا بالغضب هو التحولات المفاجئة في المواقف الرسمية لحكومتنا بدون توضيح اي منها للشعب أو حتى الحصول على موافقات شكلية من البرلمان.فمثلا في نمفبر الماضي أوضح الرئيس البشير في لقاء تلفزيوني مع قناة سكاي نيوز أن سبب قطع العلاقات مع إيران هو الحد من نشر المذهب الشيعي في السودان, و هو سبب يعلم السودانيين أنه غير حقيقي و أن ايران لم تكن تنشر التشيع بالشكل الذي صوره الرئيس كما ان الحكومة كان بإمكانها الحد من نشاط المراكز الثقافية الإيرانية مع المحافظة على علاقاتها السياسية و الاقتصادية مع إيران إن كانت علاقات أصيلة في الأساس. مازال كثير من السودانيين يتسائلون ماذا جنى السودان من التقارب مع إيران و ماذا خسر. بالمقابل ما التغيير الذي سيتحقق للسودان و السودانيين بالتحالف الجديد مع دول الخليج.