تتصدر الواقع الليبي اليوم مشاهد عدة قواسمها المشتركة التعقيد والتشتت، فالحل الليبي اليوم ليس بيد طرف أو طرفين أو حتى ثلاثة أطراف بل بيد أطراف كثيرة لدى كل منها خلافات داخلية وتجاذبات وانقسامات وهو ما يطرح أكثر من تساؤل حول نجاعة أي مقترح للحل وحول قدرته على الصمود في وجه تشعّب وتناقض خيارات وأولويات أطراف النزاع.
يأتي المشهد الليبي الأبرز من المنطقة الشرقية هناك حيث يخوض اللواء المتقاعد خليفة خفتر قتالاً عنيفًا ضد حرس المنشآت النفطية الذي يتزعمه إبراهيم الجضران.
فيما سبق لم يكن هناك خلاف يذكر بين الرجلين ولم ينخرط حرس المنشآت النفطية في أي قتال ضد حفتر، لكن زعيمه الجضران تعرض لهجوم استهدف موكبه في سبتمبر من العام الماضي واتهم الجضران آنذاك حفتر بالوقوف وراء هذا الهجوم ولم يعقب هذا الاتهام أي قتال أو مواجهة بين الطرفين، لكن حفتر قرر فجأة قصف أجدابيا واستهداف منطقة الهلال النفطي مباشرة بعد توقيع الاتفاق الليبي برعاية أممية وعلى ما يبدو فإن لهذا التحرك العسكري المفاجئ أسبابه المنطقية؛ فالاتفاق السياسي الليبي يقضي بشغور كافة المناصب العسكرية العليا أيام قليلة قبل استلام الحكومة الجديدة لمهامها مما يعني قطعًا خروج حفتر من المشهد وحفتر يعلم تمام العلم أن خروجه من المشهد الآن يعني قطعًا خروجًا نهائيًا لا عودة بعده إلى أي من مواقع التأثير أو القرار، فإذا أضفنا لهذا المعطى معطى آخر يفيد بتأييد الجضران للاتفاق الليبي برعاية أممية تكون خلاصة هذا التجاذب عقابًا من حفتر للجضران على موقفه ذلك.
ومن الواضح أن حفتر بدأ يستشعر في الآونة خطرًا وجوديًا حقيقيًا وهو ما دفعه للتحرّك عسكريًا ضد خصومه كما حدث مع الجضران وكذلك سياسيًا كما حدث مع إبراهيم الدباشي مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة الذي قررت الحكومة المؤقتة الليبية بشكل مفاجئ إقالته أيامًا فقط بعد تصريح إعلامي قال فيه إن على حفتر مغادرة المشهد، لم يشفع للرجل أنه من المحسوبين على الحكومة المؤقتة ولم يشفع له دفاعه المستميت عن شرعية البرلمان بعد أن قضت المحكمة الدستورية بحله وبعدم شرعيّته.
على كل حال فإن حفتر لم يكن الوحيد الذي قرر فجأة التحرك عسكريًا على محور أجدابيا وقصفها بالطائرات واستهداف حرس المنشآت النفطية؛ فتنظيم الدولة المتقوقع على نفسه في سرت منذ أشهر قرر هو الأخر فجأة التحرك باتجاه نفس المحور لاستهداف الهلال النفطي وتحديدًا منطقة الموانئ النفطية في التقاء عجيب بين حفتر وتنظيم الدولة ليس أعجب منه إلا أن يطلب حرس المنشآت دعمًا جويًا عاجلاً من قيادة سلاح الجو التابعة لحفتر حتى يتمكن من صد هجوم تنظيم الدولة على ميناء السدرة أكبر الموانئ النفطية في البلاد فيقابل طلبه بالرفض وسبب ذلك حسب محمد المنفور قائد سلاح الجو في عملية الكرامة أنه لم يتلق أي أوامر بالتعامل مع تقدم تنظيم الدولة نحو ميناء السدرة على العكس من هذا الموقف فإن سلاح الجو التابع لرئاسة الأركان التابعة بدورها لسلطة المؤتمر الوطني العام تدخل بشكل تلقائي وقصف أرتالاً لتنظيم الدولة كانت تنوي التقدم نحو ميناء السدرة.
تأتي أحداث الأيام الأخيرة في منطقة الهلال النفطي لتزيد من سخونة الأحداث المتلاحقة على المستوى السياسي والتي تتباين معالمها بين الشرق والغرب؛ فعلى الجانب الشرقي من ليبيا يرفض رئيس البرلمان عقيلة صالح الاتفاق السياسي الليبي برعاية أممية ويلتقي برئيس المؤتمر نوري أبو سهمين لأول مرة منذ انفجار الخلاف بين البرلمان والمؤتمر والأكيد أن الأسباب التي تدفع عقيلة صالح لرفض الاتفاق السياسي برعاية أممية مختلفة عن الأسباب التي من أجلها يرفض النوري أبو سهمين هذا الاتفاق ولسائل أن يسأل كيف لرئيس البرلمان أن يرفض اتفاقًا هندسه مبعوث الأمم المتحدة السابق برناردينو ليون تكون فيه الشرعية كلها للبرلمان بينما يفقد فيه المؤتمر الوطني العام كل شرعية له (الكلام لبرناردينو ليون مع وزير الخارجية الإماراتي في مراسلته التي سربتها صحيفة الغارديان البريطانية).
هنا كما في سياق إقالة ابراهيم الدباشي مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة لا يمكن أن يُفهَمَ رفض عقيلة صالح للاتفاق السياسي برعاية أممية إلا في إطار موقع حفتر في المشهد الجديد الذي يظل موضوعًا إشكاليًا رغم وضوح الاتفاق السياسي في هذا الشأن، بل يبدو أن الاختلاف حول موضوع حفتر مثل إشكالاً رئيسيًا في أولى اجتماعات مجلس الدولة رغم كونه الطرف المناط بعهدته تطبيق بنود واستحقاقات الاتفاق السياسي ورغم التقاء المبعوث الأممي الحالي مارتن كوبلر بعقيلة صالح وتصريح هذا الأخير بأن لديه استعدادًا مبدئيًا للقبول بالاتفاق السياسي في إطار الأمم المتحدة إلا أنه ظل يناور من خلاله إلقائه بمسؤولية القبول أو الرفض على عاتق مجلس النواب بينما يفشل مجلس النواب في الاجتماع ثلاث مرات متتالية منذ توقيع الاتفاق السياسي بالصخيرات لسبب غريب وهو عدم اكتمال النصاب القانوني للاجتماع.
في الجانب الغربي من ليبيا هناك أيضا رفض مطلق للاتفاق السياسي برعاية أممية وإصرار على أن يكون الاتفاق ليبيًا ليبيًا دون أي وصاية خارجية، وتشهد العاصمة الليبية طرابلس منذ توقيع اتفاق الصخيرات فعاليات شعبية متواصلة رافضة لهذا الاتفاق، أهم هذه الفعاليات شهدتها العاصمة بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى الرابعة والستين لاستقلال ليبيا، حيث شهدت موكبًا احتفاليًا رسميًا عمت فيه جماهير غفيرة ميدان الشهداء وحضرت أعلام الثورة وألوانها وشعاراتها وصور الشّهداء وأسمائهم وعائلاتهم وحضر في منصة الاحتفالية الرسمية رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين ورئيس حكومة الإنقاذ المنبثقة عن المؤتمر خليفة الغويل، إلى جانبهما جلس عبد السلام جاد الله العبيدي رئيس الأركان العامة للجيش الليبي، وإلى جانب كل هؤلاء جلس جمع من الوزراء والقادة العسكريين والأمنيين والمسؤولين الرسميين في تراتبية ونظام واستعرض الحاضرون في موكب الاحتفال هذا وحدات نظامية من الجيش والشرطة ترافقها من سماء طرابلس طلعات مكثفة للطيران الحربي.
اجتمعت كل هذه العلامات لترسم عن الجانب الغربي من ليبيا صورة الدولة المتماسكة كاملة المؤسسات مكتملة الأركان في الوقت الّذي تروّج جل وسائل الإعلام العالمية عن هذا الجانب أنه يعيش وضع اللادولة وفي الوقت الّذي تحاول فيه حكومة الإنقاذ التعامل مع مشاكل جمة على رأسها إدماج النازحين ومكافحة التضخم والقضاء على حوادث الخطف والسرقة.
يرفض المؤتمر الوطني العام في شخص رئيسه نوري أبو سهمين الاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة ويرى نائبه الثاني عوض عبد الصادق أن الاتفاق ليس واضحًا في مسألة مغادرة حفتر للمشهد كما أنه لا يقدم ما يكفي من الضمانات للمحافظة على مكتسبات ثورة الـ17 من فبراير، ورغم ما يقوم به مارتن كوبلر من رحلات مكوكية ومساعٍ حثيثة لإقناع المؤتمر بالقبول بالاتفاق السياسي إلا أنه ينسى كما تنسى الأمم المتحدة ضرورة الاعتذار عن الخطيئة التي قام بها المبعوث السابق برناردينو ليون الذي تبين من خلال الرسائل التي نشرتها صحيفة الغارديان والتي لم ينف ليون صحتها اعترافه بانحيازه إلى البرلمان على حساب المؤتمر الوطني العام بل وإقراره بقيامه بدور تخريبي يهدف إلى إحداث خلاف بين الإسلاميين المشاركين في الحوار.
اختار مارتن كوبلر المرور إلى السرعة القصوى وفرض توقيع هذا الاتفاق بنوع من القوة واكتفى بدعوة بقية الأطراف إلى الانضمام إليه مستفيدًا من حضور نائبي رئيسي المؤتمر والبرلمان صالح المخزوم ومحمد شعيب إلى جانبه لكن حالة الانقسام بين الكتائب والتشكيلات المسلحة وتباين مواقفها حول الحكومة المنبثقة عن الاتفاق الأممي تنبئ بأن حكومة الوفاق الوطني هذه إذا كتب لها أن تتشكل في الآجال المنصوص عليها بنص الاتفاق ستكون حكومة لاجئة كل ما تحتكم عليه هو الاعتراف الدولي بينما لا تملك أيًا من أوراق السيادة على الأرض.
وبينما يعمل مستشار كوبلر الأمني الجنرال الإيطالي باولو سيرا على ما قال أنها ترتيبات أمنية لكي تستلم حكومة الوفاق الوطني الحكم بسلاسة، يؤكد عضو المجلس الرئاسي أحمد معيتيق قبول 52 تشكيلاً مسلحًا للاتفاق السياسي واستعداهم للمشاركة في تأمين حكومة الوفاق الوطني، وعلى خلاف ذلك ترفض فصائل مسلحة وازنة الاعتراف بشرعية هذه الحكومة وترفض الاتفاق السياسي برمّته فضلاً على رئاسة أركان الجيش الليبي التي أكدت في أكثر من مناسبة بأنها لن تتلقى الأوامر إلا من مؤسسة المؤتمر الوطني العام، وبين الموافقين على الاتفاق والرافضين له في الجهتين يغادر منتسبو تنظيم الدولة قوقعتهم في سرت فيهاجمون الهلال النفطي ويفجّرون في زليطن ويتوعدون مصراطة وطرابلس بالانتقام، ويتابع المجتمع الدولي الوضع بشيء من الحذر وبكثير من التوجَس ويخشى أن يتسبب دخول حكومة ثالثة (حكومة الوفاق الوطني) على الخط من تزايد الانقسام بين أطراف النزاع كما سبق وحذر من ذلك عضو المؤتمر الوطني العام عبد القادر الحويلي قائلاً: “لن تأتي هذه الحكومة إلى طرابلس إلا إذا كانت الأمم المتحدة تريد الحرب”.
لا يبدو الاتفاق الليبي الليبي واضحًا ومفصلاً وممنهجًا كما الاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة والذي أخذ في الحسبان البيئة السياسية الليبية المعقدة والمتشظية بشكل كبير، ولا تبدو فرص نجاحه حقيقية، كما أن الاتفاق الأممي بشكله الحالي لا يتوفر على ضمانات حدية بعدم انحراف الأمور نحو محاصرة الأطراف الإسلامية والانتقام منهم من قِبل معارضيهم أو من قِبل اتباع القذافي الذين أوجدوا لأنفسهم في مجلس النواب موطئ قدم أو عبر إحدى حماقات حفتر المدعوم إماراتيًا ومصريًا.
يراقب المجتمع الدولي كل هذا المشهد ويضع يده على قلبه خوفًا من تمدد تنظيم الدولة أو هو يتظاهر بذلك، ومهما يكن من أمر فلن تغامر أي دولة مهما كانت معنية بمكافحة خطر الإرهاب بإرسال قوات برية إلى رمال الصحاري الليبية المتحركة، هنا السلاح كثير ونوعي والذخيرة أكثر وخسائر أي قوة أجنبية على الأرض ستكون جسيمة لهذا السبب وفي أقصى الحالات ستتدخل قوات جوية بريطانية أو إيطالية أو فرنسية لقصف معسكرات التنظيم بهدف إضعافه امام أي قوة محلية.
عدا ذلك ستحاول الأمم المتحدة ترويض رافضي الاتفاق ترغيبًا بتوسيع المشاركة وتقديم ضمانات إضافية أو تهديدًا بالعقوبات الدولية، وفي كل الأحوال فإن آجال تشكيل الحكومة الجديدة وفق نص الاتفاق السياسي برعاية أممية قد شارفت على الانتهاء وبانتهائها تأتي لحظة الحقيقة ليتبين الجميع حينئذ حسابات الحقل وحسابات البيدر.