في نهايات سنة 1983 كانت البلاد على مشارف أزمة سياسية نتيجة صراع الحاشية التي تفرقت شيعًا وجماعات في سعيها لخلافة الحبيب بورقيبة الذي أنهكه المرض وأرهقته المؤامرات، ولم يكن الشارع بمعزل عما يحصل في قصر قرطاج وإن بدا منشغلاً بتردي الأحوال الاجتماعية والاقتصادية.
اقتصاد شهد تجربة تعاضد فاشلة قبل أن يصبح مرتهنًا إلى سياسات توجه ليبرالي أراده النظام رافعة للاقتصاد الوطني فكان سببًا في توتر الأوضاع وتأجيجيها خاصة من خلال ما يسمى بقانون “72” الذي وسم بالظالم والمتجني على حقوق العمال والطبقة الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، وما عمق الأزمة أيضًا هو فشل المفاوضات الاجتماعية ووصولها إلى طريق مسدود بين حكومة الهادي نويرة آنذاك التي اختارت التصعيد والاتحاد الذي اختار مع قرار الحكومة رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية ومن بينها الخبز، وانطلقت الاحتجاجات.
حيث كان القرار بمثابة استهداف لوجود التونسي ولأمنه واستقراره وكرامته، وانطلقت الاحتجاجات من مدينة دوز بالجنوب التونسي يوم 29 ديسمبر 1983 في شكل تظاهرات أدت إلى المواجهة بين المتظاهرين وقوات النظام العام.
انتشرت الاحتجاجات لتشمل مدينة قبلي ومدينة سوق الأحد المجاورتين في اليوم التالي متخذة طابعًا عنيفًا بعد أن اتسعت لتشمل مدينة الحامة، ومع دخول مشروع الزيادة في أسعار العجين ومشتقاته حيز التنفيذ يوم 1 يناير 1984 شملت الحركة الاحتجاجية مناطق الشمال والوسط الغربي في الكاف والقصرين وتالة وبقية مناطق الجنوب في قفصة وقابس ومدنين، مما استدعى تدخل الجيش لهذه المناطق بعد أن سجل عجز قوات النظام العام في الحد من توسع الانتفاضة.
في 2 يناير أعلنت وزارة الداخلية عن سقوط قتلى وجرحى في مناطق قبلي والحامة والقصرين وقفصة، ودخلت المنطقة الصناعية بقابس بعدها في إضراب شامل ومسيرات كبرى شارك في تنظيمها كل من العمال والطلاب.
وغصت شوارع تونس وصفاقس بطلبة الجامعات والمدارس الثانوية الذين عبروا عن رفضهم لمشروع الزيادة في أسعار العجين منددين كذلك بالتدخل الأمني الوحشي في مواجهة المظاهرات التي تواصلت رغم العطلة القسرية التي منحت للجامعات ومختلف المؤسسات التربوية من أيام 4 إلى 7 يناير 1984 وما صاحب ذلك من اعتقالات في صفوف الطلبة والنشطاء ومن أطلقت عليهم الحكومة صفة “المجرمين والمخربين” ولم يحل دون تواصل الحركة الاحتجاجية التي لم تتوقف إلا مع إعلان رئيس الدولة التراجع عن تلك الإجراءات وإعادة النظر في الميزانية الجديدة في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.
ورغم هذا الإعلان فإن المواجهة أسفرت عن سقوط حوالي 400 قتيل وجرح أكثر من 1000 حسب تقارير مستقلة، في حين أقرت الحكومة بسقوط 52 قتيلاً و365 جريحًا فقط.
اليوم وبعد أكثر من ثلاثين سنة من هذه الأحداث، ومن كلمة بورقيبة الشهيرة “نرجعو كيف ما كنا” شهد المشهد التونسي تغييرات كبيرة لعل أبرزها ثورة 17/ 14 التي أعادت إلى الواجهة صدى الأصوات التي لم تساوم على حقها في الخبز والكرامة وقدمت شهداءً وضحايا مازالوا محرومين من حقهم في رد الاعتبار والتعويض المعنوي لأسرهم وعائلاتهم، كما لم ينصفهم التاريخ الوطني إلى اليوم ولم تنفض العدالة الانتقالية الغبار عن ملفاتهم.
إذن ما تزال الأمة حية مادامت تعاودها هموم الماضي وتشغلها آمال المستقبل، فالثبات على الذاكرة مهم وضروري، أن تتوارث الأجيال تواريخ انتصاراتها لتنطلق منها وتؤسس من خلالها ما ترنو إليه وتواريخ هزائمها لتعتبر منها وتراجع زلاتها، ولعل الرهان الحقيقي هو الحفاظ على زخم النضال من أجل الخبز والحرية.. لا ينفصلان في الساحات والقلوب.