كانت انطلاقتها باسم “الجماعة الإسلامية” في سبعينات القرن الماضي ومن ثم الاتجاه الإسلامي لتستقر التسمية عام 1981 على اسم حركة النهضة، ومنذ بدايتها في أيام حكم الرئيس بورقيبة وإلى حين سقوط المخلوع بن علي في الثورة التونسية، خاضت حركة النهضة مسارًا نضاليًا طويلًا كلفها قرابة 30.000 سجين وعشرات الشهداء وتوزع أبناؤها المشردون على أكثر من خمسين دولة حول العالم، وقادت الحركة بعد الثورة تجربة ائتلاف حكومي مع حزبين يُحسبان على التيار العلماني، وبعد انتخابات 2014 دخلت الحركة في ائتلاف حكومي يقوده نداء تونس لمؤسسه الباجي قايد السبسي.
ومنذ يوم الأحد الماضي الثالث من يناير 2016، انطلقت المؤتمرات المحلية للحركة الإسلامية الديمقراطية كما أسماها الشيخ راشد الغنوشي، وستليها المؤتمرات الجهوية لاحقًا، ومن ثم المؤتمر الوطني العام الذي يدور حوله نقاش عميق في الساحة السياسية والثقافية التونسية وداخل حركة النهضة نفسها.
واختلفت ردود أفعال المراقبين حول هذا المؤتمر بين من يراه مؤتمرًا كلاسيكيًا سيكرس سياسات وخطاب إيديولوجيين موجهين لفئة معينة دون عامة التونسيين وبين من يراه مؤتمرًا يبعث روحًا جديدة بمثابة تأسيس ثانٍ يتماشى مع متطلبات المرحلة وما تحمله من فرص وصعوبات محلية وإقليمية ودولية.
تعتبر الحركة الإسلامية في تونس ذروة ما وصل إليه الفكر الإسلامي نظرًا لدسامة مرجعيتها الفكرية وحنكتها السياسية، وعادة ما تقدم الحركة تأصيلًا فكريًا وسياسيًا لتوجهاتها.
لذلك لا بد من التأمل في التصريحات والمقالات التي نشرها قادة الحركة في وسائل الإعلام التونسية؛ فقد كتب القيادي في الحركة، الدكتور رفيق عبد السلام، مقالًا بعنوان “هل يمكن الحديث عن إسلام سياسي جديد؟” نُشر في صحيفة الصريح أكد فيه على وجوب تلازم مساري التجديد الفكري والممارسة السياسية لتحقيق النجاعة في الفعل السياسي، قائلًا “يحتاج ما أسميناه هنا بتيار الإسلام السياسي الجديد إلى جانبين اثنين متكاملين، أولهما الهدم أو التخلص من الأفكار التي لم يثبت نفعها وجدواها، في إطار ما أسماه مالك بالنبي بالأفكار الميتة، وثانيهما تأسيس أطروحات جديدة تستجيب لحاجات المرحلة وأوضاع العالم الإسلامي، وسنكتفي هنا في هذه المقالة بذكر ما يجب مراجعته أو هدمه، على أن نبسط القول في مناسبات قادمة ملامح وتوجهات هذا التوجه الجديد الذي ندافع عنه”.
وقدم مفهومًا متميزًا للشريعة الإسلامية يؤكد أهمية المرجعية الزيتونية لحركة النهضة قائلًا “أما الشريعة فهي لم تعن في التاريخ الإسلامي مدونة قانونية مكتملة ومغلقة على نحو ما يفهمه القانونيون المحدثون، بقدر ما كانت تعني المنظومة القيمية والروحية العامة التي يدخل من ضمنها التشريع بمعناه العام حيث لا ينفصل الأخلاقي عن التشريعي”.
يمثل هذا التعريف الذي قدمه الدكتور عبد السلام تأكيدًا على الشعار الذي يتعلمه طلبة الجامع الأعظم، جامع الزيتونة المعمور، “في عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك”.
وفي نفس السياق كتب المفكر التونسي وأستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية الدكتور سامي براهم على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي مقالًا حول أصداء إحدى المؤتمرات المحلية لحركة النهضة تحدث فيه عن النقاشات حول الهوية المرتقبة للحزب ومسائل أخرى.
ومن جملة ما نشره الدكتور براهم “هوية الحزب، حيث وقع الإعلان بشكل نهائي عن الطابع السياسي الإصلاحي المدني الديمقراطي السلمي للحزب والقطع مع طابعه الشمولي وإقرار فك الارتباط بشكل صريح بينه وبين العمل الدعوي الموكول إلى المجتمع المدني والجمعيات والهيئات التي تشرف عليها المصالح المعنية في الدولة، والمستقلة إداريًا وماليًا وتنظيميًا ومن ناحية الإطار المسير عن الحزب السياسي”.
يحمل هذا النقاش الذي نقله الدكتور براهم دلالتين؛ إذ تفيد الأولى بأن النهضويين يؤكدون على وطنية حزبهم وانفتاحهم على كل كفاءات المجتمع، أما الدلالة الثانية فتعني أن الحركة الإسلامية في تونس تستند إلى المنهج الزيتوني في فهم الإسلام والعمل به وهو منهج يربي الإنسان على القيم والأخلاق النبوية الشريفة، ويفند التعريف أيضًا الاتهامات التي تطال الحركة بتبني منهج يرتكز على الحرفية والتشدد والجمود على فهم سطحي وما ينتج عنه من ” تدين مركب” يجعل المسلم مغتربًا وحائرًا بين الانتماء لدينه وانتمائه لوطنه.
ويجدر بالذكر أن الشيخ راشد الغنوشي في أحد حواراته في قناة الجزيرة اعتبر أن الثورات في أوروبا الغربية كانت تهدف إلى إخراج الدولة من سطوة الكنيسة وأن الثورات العربية تهدف لإخراج الدين من سطوة الدولة وترك الحرية للناس في اختياراتهم، وقد دعم الدكتور رفيق عبد السلام هذه الفكرة بقوله “بينت التجربة العملية أن فرض الأسلمة بصورة فوقية وبأدوات الدولة كما حصل في إيران وأفغانستان أو فرض العلمنة الفوقية بأدوات الدولة كما حصل في تركيا الحديثة وإلى حد ما في إندونيسيا سوكارنو والدول الشيوعية في آسيا الوسطى قد انتهت كلها إلى مأزق كبير”.
وبالتالي يتخصص الحزب في صياغة تصور اقتصادي جديد لمنوال التنمية لتونس يجمع بين السعي لبناء اقتصاد السوق الاجتماعي وصياغة إصلاح هيكلي للدولة التونسية، بعد أن تم حسم مسألة الهوية والمرجعية.
التعديل الحكومي: هل هو امتحان مبكر لمؤتمر النهضة؟
شهد حزب نداء تونس مؤخرًا انشقاق أمينه العام محسن مرزوق عن الحزب وانسحاب بعض النواب الموالين له من الكتلة النيابية للحزب.
وفي هذا السياق يتنزل التعديل الحكومي الذي أقره الحبيب الصيد رئيس الحكومة التونسية بعد التشاور مع رئيس الجمهورية، ويجدر بالذكر أن النهضة أصبحت ممثلة في الحكومة الجديدة بمستشار لدى رئيس الحكومة مكلف باليقظة والاستشراف وهو نجم الدين الحمروني ووزير التشغيل زياد العذاري ووزير الصناعة منجي مرزوق.
هذا التعديل الوزاري قد أظهر في الواجهة خميس الجهيناوي الذي أصبح وزيرًا للخارجية بعد أن كان مستشارًا للباجي قائد السبسي في قصر قرطاج، ويرى مراقبون أن هذا التعيين إهانة للتونسيين، فهذا الرجل كان ممثلاً للمكتب التجاري التونسي في تل أبيب قبل إغلاقه سنة 2000.
من جهة أخرى، يرى مراقبون أن هذا التغيير قد أطاح ببعض الوزراء الموالين لمحسن مرزوق كوزيرة الثقافة لطيفة الأخضر ووزير الشؤون الدينية عثمان بطيخ الذي أدى تعيينه على رأس الوزارة إلى إحداث تململ في مساجد البلاد خاصة في ولاية صفاقس.
ليس هذا فحسب، فالتشكيلة الحكومية الجديدة في مجملها تعتبر مجاملة صامتة لحركة النهضة التونسية لذلك ذهب البعض إلى اعتبار أن التحوير الأخير سيفرض أسئلة هامة في نقاشات مؤتمر النهضة العاشر، هذه الأسئلة تتعلق بالأساس بمستقبل إستراتيجية التوافق الوطني مع جل مكونات الطيف السياسي التونسي ورؤية الحركة لتطوير القطاعات الحيوية للدولة كالفلاحة والتجارة والسياحة والتعليم العالي والعلاقات الخارجية لتونس.
وكخلاصة لهذه التطورات يمكن القول إن الشيخ راشد الغنوشي أحسن تسويق فكره خارج النهضة وخارج تونس وأظهر صورة الحزب الذي يرى في الاختلاف ثراء للبناء الوطني، وانعكس ذلك على مواقف عدة قيادات في الحركة إلى تبني موقف منسجم مع فكر الشيخ الغنوشي.
وبذلك أحسنت حركة النهضة بحسن إدارتها للاختلاف السياسي في تونس التحكم في موازنة الهوية والمشروع الوطني؛ فقد فرضت على الساحة السياسية احترام المرجعية الدينية لتونس دون التصادم مع التيارات السياسية المخالفة، وأظهرت سياستها أن الحركة تنطلق من فكرة وتجمع أبنائها على تحقيقها وذلك على عكس بعض التيارات السياسية الأخرى في تونس التي يكون اجتماعها على شخص يُختزل الحزب في صورته ومكانته.
ورغم أن بعض أنصار النهضة يرون في مسار التوافق تنازلاً عن المبادئ والأهداف التي تأسست عليها الحركة، إلا أن الواقع السياسي يثبت أن الحركة أجبرت كل الطيف السياسي على عدم الخوض في مسألة الهوية والتركيز على المسألة الاقتصادية ومستقبل المنوال التنموي لتونس.
فهل سيضع المؤتمر العاشر لحركة النهضة رؤية إستراتيجية سياسية تمكن النهضة من وضع بصمة متميزة في ملف الحكم المحلي في ظل اقتراب الانتخابات البلدية؟
هل سيكون المؤتمر انطلاقة تأسيسية جديدة تضع أهدافًا طويلة المدى في الإصلاح الهيكلي للدولة و تدعيم المكانة الجيوسياسية لتونس وتشبيك العلاقات مع دول المغرب العربي خاصة والاتحاد الأفريقي ودول عدم الانحياز عامة؟