يحلم الناس في قطاع غزة بدخول سينما حقيقية وأن يتمتعوا كغيرهم من الشعوب بمواكبة السينما العالمية، أن يجلسوا على الكراسي الحمراء برفقة عائلاتهم أو أصدقائهم وهم يحملون أكياس الفُشار المخططة بالأحمر والأبيض، وحجز تذكرة للفيلم المفضل، والاندماج بالأحداث أمام شاشة العرض السنيمائية، وتشكيل حلقات المناقشة عند بوابة الخروج.
هذا المشهد الذي يرغب الغزيون أن يُسدل الستار عنه وتعود السينما التي يفتقرون لها بالقطاع، فهم يحاولون أحيانًا كبح شغفهم بحضور بعض الأفلام القصيرة التي تقوم بعرضها بعض المؤسسات الثقافية بغزة، والتي لا تتجاوز سوى عدد من الدقائق حول قضايا معينة ولهدف معين بتمويل من مشاريع داعمة لفكرة تلك الأفلام.
ولكن بشكل مختلف استطاع فيلم “معطف كبيرالحجم” لمخرجه الفلسطيني نورس أبو صالح، والذي تم عرضه من خلال شاشة عرض كبيرة على مسرح بمركز ثقافي في غزة خلال الأسابيع الماضية أن يُطفئ قليلاً من ظمأ الغزيين السينمائي، فما إن تم الإعلان عن موعد الفيلم ومكانه حتى توافدت الوجوه وتسارعت الأيدي لحجز تذكرة الفيلم.
وبشغف كبير تسلل لعقول الغزيين اكتظ مكان العرض بالحضور، وتوافدت فئات متنوعة من مثقفين وطلبة وسياسيين وإعلاميين ونساء وحتى أطفال لمشاهدة الفيلم الذي غذى ذاكرتهم بقضيتهم الفلسطينية المرتدية للمعطف كبيرالحجم.
الفيلم ﺩﺭﺍﻣﻲ ﺗﻤﺜﻴﻠﻲ، مدته 120 ﺩﻗﻴﻘﺔ، ﻳﺘﺤﺪﺙ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ ﻣﻦ ﻓﺘﺮﺓ 1987 ﺣﺘﻰ ﻋﺎﻡ 2011 ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺘﻢ ﺗﻨﺎﻭﻟﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﺭﺍﻣﺎ إﻟﻰ ﺍﻵﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺣﻠﺔ لما حملته من انتفاضتين ﻭﺍﺗﻔﺎﻗﻴﺎﺕ ﺃﻭﺻﻠﺖ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ اليوم.
ﻳﺘﻨﺎﻭﻝ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﺒﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺑﻄﻞ ﻓﻠﺴﻄﻴﻨﻲ ﻳﻌﻴﺶ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ ﺑﻜﻞ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎﺗﻬﺎ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ويقرر بعد كل ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻪ ﻓﻲ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ ﻭﻣﻌﺎﺻﺮﺗﻪ ﻟﻼﻧﺘﻔﺎﺿﺘﻴﻦ ﻭﻓﺘﺮﺓ ﺃﻭﺳﻠﻮ ﻭﻓﺘﺮﺓ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺃﻥ ﻳﻨﺸﺮ ﻗﻀﻴﺘﻪ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻹﻋﻼﻡ، ﻭﻳﻘﻒ ﺍﻟﻤﺤﺘﻞ ﺍﻟﺼﻬﻴﻮﻧﻲ ﻋﺎﺋﻘًﺎ أمام وجهه ليهدده ﺑﺴﺒﺐ ﺍﺗﺠﺎﻫﻪ للإعلام ﻭﻳﺤﺎﻭﻝ ﻣﻨﻌﻪ ﻣﻦ ﺇﻳﺼﺎﻝ ﺻﻮﺕ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ.
ووجه المخرج رسالته للعالم بارتداء الفلسطيني للمعطف الكبير الحجم ليوضح أن الفلسطيني ﻴﺘﺤﻤﻞ ﻣﺴﺆﻭﻟﻴﺎﺕ ﻓﻮﻕ ﻃﺎﻗﺘﻪ ﻟﻤﺠﺮﺩ ﻛﻮﻧﻪ ﻓﻠﺴﻄﻴﻨﻴًﺎ ﺳﻮﺍﺀ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﻴﺶ ﻓﻲ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺧﺎﺭﺟﻬﺎ ﺃﻭ ﻛﺎﻥ ﻣﺮﺗﺒﻄًﺎ ﺑﻬﺎ على أي صعيد، ولكنه أطل على متاهة الأمل الفلسطيني من خلال مشهده الأخير حيث يختار البطل بعد تلقيه للرصاصة من عدوه (الاحتلال الإسرائيلي)، أن يخلع هذا المعطف ويلقيه بالبحر فهو يرمز إلى أن الفلسطينيين ستنتهي مشاكلهم بإلقائها بالبحر ولكن ذلك وإن حدث سيحدث بالجنة.
علق أحد المشاهدين بعد انتهائه من مشاهدة الفليم أنه رجع بذاكرته قبل 25 عامًا عندما كان يذهب برفقة زوجته لمشاهدة بعض الأفلام المصرية التي كانت تعرض في ذلك الوقت، ولكن قال إن فيلم معطف كبير له رونقه ووجعه الخاص ذلك الوجع المرتبط بالقضية الفلسطينية، حيث جاء متشوقًا جدًا لمشاهدته فهو نسيج لعمل تمثيلي كلاسيكي رائع يتحدث عن الكثير من المواقف التي تجتاح الفلسطيني، ومختلف عن النمط التمثيلي السائد والمتابع في هذا الوقت.
فيما خرج الكثير من المشاهدين وهم يتبادلون المديح ويثنون على الفليم وقال الشاب محمد المصري: “بقدر ما كنت متشوقًا لرؤية فيلم فلسطيني ورؤية الفن الفلسطيني يتطور بقدر ما استمتعت جدًا برؤية هذا العمل للمخرج الرائع نورس صالح، وأسعدني جدًا اهتمام الكثيرون بالأعمال الفنية الفلسطينية وأتمنى كمحب للمسرح وممثل فيه ازدهار وعودة العمل المسرحي بقوة”، وأضاف “السينما قوية لإيصال الفكرة للخارج أكثر من داخل البلاد، أما المسرح فإنه يجسد عرض الواقع للبيئة الداخلية وكلاهما مكمل لغيره وفي النهاية لا نريد سوى ثقافة وفن يرقى ببلادنا”.
كما قالت الشابة علا النيرب بشعور تختلجه نوبات الفرحة لحضورها عرض سينمائي فهي لم تذهب قط للسينما، وتسمع دائمًا عنها من خلال حديث أصدقائها خارج غزة حيث يذهبون باستمرار لحضور عروض سنيمائية: “وخصوص الفيلم تابعت المشاهد وكلها كانت جميلة، كما أن الفيلم يحتوي على مشاهد درامية وكوميدية وقهقه الكثيرون داخل القاعة عند وجود بعض من المشاهد االمضحكة، فيما بكوا عند وجود مشاهد مؤثرة، كان الانسجام واضحًا بشكل كبير أثناء المشاهدة”، وأنهت حديثها بـ “ياريت يصير عنا سينما نرتاد عليها باستمرار”.
ويتابع الغزيون الأفلام السينمائية من خلال مواقع التحميل على الإنترنت، أو بشرائها عبر الأقراص المُدمجة، لكن ذلك لا يعوض عن مشاهدة فيلم في دور السينما التي لها متعتها الخاصة فلعلها تساهم بالتخفيف من الضغوط النفسية التي يتعرض لها الناس بالقطاع الذي يعيش تحت الحصار منذ ثماني سنوات.
عرفت فلسطين العروض السينمائية منذ بداية القرن الماضي، حيث تشير الكتابات التاريخية إلى أن أول دار عرض سينمائي ظهرت في فلسطين هي “أوراكل” وذلك في مدينة القدس عام 1908، وفي عهد الانتداب البريطاني شهدت فلسطين زيادة ملحوظة بدور العرض السينمائية بالتزامن مع صدور القانون الخاص بالأشرطة السنيمائية عام 1920، وفي الثلاثينات انتشرت في المدن الفلسطينية الرئيسة مجموعة من صالات السينما المجهزة التي كانت تعرض الأفلام التجارية المصرية بشكل خاص على الجمهور، حيث عرضت أفلامًا عربية وأجنبية، ناطقة وصامتة.
ويعود تاريخ السينما في غزة، إلى أربعينات القرن الماضي، حيث تم إنشاء أول دار للسينما عرفت باسم سينما “سامر” عام 1944، فيما توالى افتتاح دور السينما بعدها في سبعينات القرن الماضي، وكان من أشهرها سينما النصر والجلاء وعامر والسلام وصابرين، وكانت تعرض فيها أفلام معظمها مصرية.
لكن طبيعة الأحداث التي مرت على قطاع غزة منذ الثمانينات، وخصوصًا انتفاضة 1987 كان لها بالغ الأثر في إغلاق دور السينما وعدم الاكتراث لوجودها حتى يومنا.
ويتمنى الغزيون إعادة الحياة لدور السينما بغزة التي باتت عناوين للطرق ولم يبق منها سوى اسمها؛ فمدينتهم الجميلة ليست عنوانا للدمار بل أرض يسكنها ناس يحبون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلا.