سياسة عمر رضي الله عنه تجاه الروابط وإستراتيجيته من التشديد إلى الترشيد:
قضى عمر رضي الله عنه فترة خلافته (11 عامًا) تعتبر من أخصب فترات الدولة الإسلامية، توافرت فيها كل عوامل الاستقرار الجماعي، فحرية الرأي والتعبير لقيت تقدمًا ملحوظًا مع إبداع عمر في المشورة، فقرب الصحابة والنخب وجمعهم حوله في كل أمر وكان يفرق بين مجلس شوراه ومجلس ولاته، ففصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكان إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم، واستحدث عمر نظام “الرقباء” الذين يرقبون الولاة له في كل مصر، وعقد اجتماعًا سنويًا أشبه بجمعية عمومية بموسم الحج لاستقبال الشكاية، والاجتماع بالرقباء، حتى همّ آخر حياته أن يجوب الأقطار بنفسه يستمع لشكاية الناس لما زادت عن حدها المعتاد.
وعن الإشباع الوظيفي؛ فقد انشغل الناس بالجهاد والفتوحات والدعوة، فقد كانت فترة من أخصب فترات المسلمين تمددت فيها دولة المسلمين إلى ما وراء حدود الإمبراطوريات القديمة التي كانت تهددها ودخل الناس في الإسلام راغبين، فما فتح في 11 عامًا هو مثل ما فتح بعد ذلك في تاريخ الدولة الإسلامية كلها!
فلما اتسعت الأرض المفتوحة، وأمنت الدولة الإسلامية اعتداء الإمبراطوريات القديمة عليها بعد عقد من المعارك الضارية ورثت على أعقابها الدولة الإسلامية سلطانها وبسطت حكمها على جل أراضيها، أقامت جيوش المسلمين الفاتحين المعسكرات والحصون الثابتة، وبطبيعة المجاهد التي تأبى القعود انصرف هؤلاء إلى أعمال الزراعة وإحياء الأرض؛ مما شكل خطرًا على الجندية وقوة الجيوش من ناحية، ومن ناحية أخرى ساهم في تغيير التركيبة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.
فما تمتع به الفاتحون من امتيازات مادية متمثلة في رؤوس أموال مدخرة من أسهم الغنائم، ومعنوية متمثلة في المكانة الاجتماعية والدينية عند أصحاب الأرض المفتوحة، خلق نخبة اقتصادية واجتماعية جديدة مست مبدأ العدالة الاجتماعية، واجه ذلك عمر منذ بزوغ بوادره فاعتمد سياسة التقشف وألزم بها نفسه وولاته، وأبقى الأرض لأصحابها ونهى الفاتحين عن امتلاكها، واستحدث نظام “الوقف الإسلامي”، ولما بدت بوادر التضخم المالي وبزوغ فجوة اجتماعية همّ عمر للاقتطاع من فضول الأموال قائلاً: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء”، صحيح أن هذا الأمر أثار خلافًا حول مدى مساس ذلك بحق الملكية الخاصة الذي كفله الإسلام، ولذا ظلت نظرية “الاقتطاع” هذه مثيرة للجدل بعد وفاة عمر بين أبو ذر الذي ظل ينادي بها وبين باقي الصحابة، لكن على كل حال لقد تطورت النظم والنظريات الاقتصادية في عصرنا، وأصبح من برامج الاستثمار التي تضعها الدولة اليوم ما يغني عن نظرية “الاقتطاع”، ويقضي على أي تضخم حادث إذا التزمت الدولة بتشجيع الاستثمار الإنمائي الشامل دون الاستثمار الانتقائي الاستحواذي.
في ظل تلك القبضة العُمَرية لم تجد الروابط ولا نخبها سبيلاً للتباعد الاجتهادي أو الحركي، وإذا بدر فعمر له بالمرصاد يعزل من يحمل الناس على فضل عقله أي باجتهاده المخالف، ويعزل من يخشى فتنة الناس به وفتنته بهم أي بتحركه المخالف، دون أن يبدي أقواهم أي اعتراض قائلاً: أما وابن الخطاب حي فلا!
وهنت القبضة العمرية مع تقدم سن عمر، واتسعت الدولة وانتشرت الرعية، وأصبحت الرغبة في مواكبة التدافع الفكري الحضاري بين الإسلام وبقايا حضاراتي فارس والروم والسير في اتجاه التحديث الحضاري أقوى من مركزية الدولة التي أسسها عمر، فبدت بوادر الانفلات في عوامل الاستقرار، فالحركة الجهادية بلغت حد الكفاية في التوسع، مع قصور في الوفاء بمتطلبات تعميق الفكرة الإسلامية في نفوس العامة والمسلمين الجدد، فكثرت الشكاية والاعتراض على الولاة من العامة والنخب المجاهدة على حد سواء، حتى حيرت الكوفة عمر، وفجوة المال بدأت تتسع بين طبقات المجتمع، وبزغت الروابط القبلية والنخب القرشية تباعًا لتقديم نفسها للزعامة يقول الطبري: ما مات عمر حتى ملته قريش.
شغل الأمر عمر حتى كان دعاؤه “اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط”.
ما كان أمر يشغل عمر آخر حياته كهذا فلما طُعِن وضع عمر خلاصة اجتهاده بين يدي الصحابة فيما نسميه نظرية “ترشيد الروابط” وملخصها:
1- الاعتراف بالروابط بدلاً من مقاومتها؛ بدا ذلك في رفض عمر أن يعين للخلافة رغم ميله لعلي رضي الله عنه فقد كان الأقرب لطريقته شدة ونزعًا فقال: “إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق يقصد عليا”، ولكنه عدل إلى اختيار ستة من الصحابة عن أكبر الروابط القبلية بقريش، فعثمان عن بني أمية، وعليّ عن بني هاشم، وطلحة عن بني تيم قبيلة أبي بكر، والزبير عن بني أسد، وسعد وعبدالرحمن عن بني زهرة، وردّ بني عدي رهطه قائلاً لهم يكفيكم أن يحاسب منكم واحد، واسترضى بني الحارث قائلاً لهم لو كان أبوعبيدة حيًا لوليته، واسترضى رابطة الموالي والسواد قائلاً لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا لوليته، وكان سالم فارسيًا.
ثم قال عمر للستة: “إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس”.
2- تحديد رؤوس الروابط من أفضلهم ورعًا وسبقًا وقيادة، معلنًا لمن ورائهم أن هؤلاء الستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ فبها قدّمهم، ومنها تستمد شرعيتهم.
3- عقد الشورى بينهم؛ ووضع لهم عمر ما هو أشبه بقانون انتخابي فحدد المكان، والمدة، وقواعد الإجراء، وقانون العقوبة للمخالف، وعين عليهم أبوطلحة في نفر من الأنصار لمراقبة العملية الانتخابية وتنفيذ القانون.
4- إشراك الروابط في الأمر وعدم انفراد رابطة به؛ كانت وصية عمر للستة هي أمرين، الأول: “لا تحملوا قومكم على رقاب الناس”، والثاني: “فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة”، وخص سعدًا ربما لأنه كان أقلهم فرصة فقد اتهمه الناس في الكوفة واعتزل الإمرة، فكان الإشراك في حق باقي الستة من باب أولى، وعمل عثمان بوصية عمر بعد ذلك فولى سعدًا لكن ذلك لم يدم سوى عامين، ولم يول غيره من الستة، حتى استأثرت بني أمية بالولايات الكبرى؛ الحجاز والشام ومصر والبصرة والكوفة.
أكمل عبدالرحمن بن عوف اجتهاد عمر رضي الله عنهما، فكان أول من استحدث التصويت الانتخابي لحسم الأمر بين عثمان وعلي بعد أن خلع نفسه من الاختيار ليدير الأمر، فاستقرأ بيوت المدينة بيتًا بيتًا يحصي آراءهم في رقعة معه، وكان غالبية أهل المدينة مع عثمان، فلما حضرت البيعة في المسجد اختلف الناس على إجراء عبدالرحمن لاقتصاره على تصويت أهل المدينة دون السواد، فقال عمّار: إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع عليًا وتبعه أناس، وقال ابن أبي سرح: إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان وتبعه أناس، ولما كان إجراء التصويت في السواد صعبًا وغير ممكن وقتئذ، لجأ عبدالرحمن إلى عرض البرنامج الانتخابي لكل من عثمان وعلي فوجه لهما على المنبر أمام الناس سؤالاً واحدًا: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر؟ أما عليّ فقال: ما استطعت، إجابة رجل يميل للتجديد، وأما عثمان فقبل، إجابة رجل يميل للمحافظة، وكان السواد من المسلمين يميلون بالطبع إلى المحافظة على نهج الخليفين السابقين فقوى هذا بيعة عبدالرحمن لعثمان وأخمد الخلاف”.
وبذلك يكون عمر وعبدالرحمن بن عوف قد خطَّا للأمة خطًا جديدًا نحو التعددية والمنافسة على السلطة تجنبًا للصراع والمشاحنة، حفاظًا على التناغم الاجتماعي أو المؤسسية الشاملة التي تستطيع أن تحرك المجتمع بكامل طاقته نحو الإنتاج والتطور مهما كان فيه من تباين للأفكار، بخلاف المؤسسية الاستحواذية، التي تسيطر فيها نخبة معينة وتستأثر بالسلطة والثروة دون باقي المجتمع، قال تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) أي بينهم جميعًا.
وهذا هو الوجه الذي يلتقي فيه “الحكم الرشيد” الإسلامي مع “الديمقراطية” الغربية الحديثة، وإن اختلفت المنطلقات والبواعث والبيئة التي ولدت فيها الديمقراطية الغربية، فالبداية كانت في غرب أوروبا مع انتشار وباء الطاعون القادم من الشرق والذي حصد نصف سكان أوروبا تقريبًا، مما أدى إلى انحسار أعداد المزارعين العاملين بالسخرة في أوروبا الإقطاعية، الأمر الذي عزز بدوره من الاهتمام بهم والاستجابة لمطالبهم لدى ملاك الأرض، ومن رحم هذه البيئة التحفيزية الجديدة للعمل والإنتاج ولدت الثورة الصناعية، وحلت مبادئ الليبرالية والديمقراطية محل الكولونولية والملكية.
في الولايات المتحدة الأمريكية كان الأمر مختلفًا، فأمريكا الشمالية التي كانت أقل كثافة سكانية بكثير من نظيرتها الجنوبية وأقل في الموارد والذهب، حينما أبحر إليها مستعمرو شركة فرجينيا البريطانية فشلوا في تطبيق النموذج الاستعماري الذي طبقه الإسبان في الجنوب، فالشماليون لم يجدوا ما يفتدوا به أنفسهم ويشبعون به نهم المستعمر كالجنوبيين فحاربوا بشراسة حرب من لا يخاف على شيء وراءه، وبعد أن فقدت شركة فرجينيا في البداية معظم بعثتها قررت تغيير سياستها الاستعمارية فمنحت المستعمرين الأرض والتصرف، وشكلت أول جمعية عمومية تضم نواب عن عمال الأرض، ومنذ ذلك الحين تعلمت الولايات المتحدة كيف تبني مؤسساتها الاقتصادية والسياسية على مبدأ تحفيزي شامل لجميع المواطنين، والبُعد عن المؤسسات الاستحواذية المتسلطة.
وهنا نسوق كلام شهيد الحرية سيد قطب – رحمه الله – في كتابه العدالة الاجتماعية: “قد يحدث في تطور النظم البشرية أن تلتقي بالإسلام تارة، وأن تفترق عنه تارة ولكنه هو نظام مستقل متكامل لا علاقة له بتلك النظم، ولا حين تلتقي معه ولا حين تفترق عنه، فهذا الافتراق وذلك الالتقاء عرضيان وفي أجزاء متفرقة، ولا عبرة بالاتفاق أو الاختلاف في الجزئيات والعرضيات، إنما المعول عليه هو النظرة الأساسية والتصور الخاص، وللإسلام نظرته الأساسية وتصوره الخاص , وعنه تتفرع الجزئيات , فتلتقي أو تفترق عن جزئيات في النظم الأخرى، ثم يمضي الإسلام في طريقه المتفرد بعد كل اتفاق أو اختلاف”.
هذا المقال هو الجزء الثاني من خمسة مقالات بعنوان: نحو فهم جديد للخلاف بين الصحابة – دراسة لتفكيك الحكم الإسلامي والثورة الإسلامية، يمكنكم قراءة الجزء الأول هنا