لا يتسع المقام هنا وليس مكانه لاستطراد الشرائع السماوية والمواثيق الأرضية التي تعني بالإنسان؛ آدميته، كرامته، حقوقه، وكيانه، ولسنا بحاجة إلى كثير من الاستشهادات للتدليل من خلالها على انتهاك حرمات السماوات والأرض في سوريا، فليست المشكلة هنا أو هناك، حصلت في التاريخ ثورات كثيرة، ولأسباب كثيرة، بعضها انتصرت وأخرى فشلت وتلك انزلقت، لكن كان للثورة السورية ما لم يكن لغيرها، فما أكثر تجليات الثورة السورية، الثورة الكاشفة الفاضحة، تلك التي كشفت أكذوبة حقوق الإنسان، وبان زيف القيم الغربية تحديدًا حاملة لواء الدفاع عن حقوق الحيوان قبل الإنسان، وأصبحت المسألة لا تعدو أكثر من سلعة رائدة الرواج تستخدم للمتاجرة السياسية، دون التعامل معها من منظور إنساني أخلاقي.
سقطت بغداد ودمرت ديارها ونهبت آثارها وهجر علماؤها وتمزقت أوصالها، وكانت حقوق الإنسان حينها تعني النفط وإسرائيل وغايات أخرى المجهول منها أكثر من المعروف، ولطالما أن تاريخ المتاجرة الدموية بحقوق الإنسان ليس جديدًا في سوريا، فقد كانت بغداد والموصل وكل مناحي العراق سوقًا رائجة بهذا النوع من التجارة، فلم يكن هناك شيئًا مستورًا حتى يتم كشفه، لكن الذي بان عهره وانكشفت سوءته ما عرف طويلاً بحلف الممانعة التي كانت من ورائه إيران، لقد أسقطت الثورة السورية القناع عن وجه إيران القبيح ومشروعها الصفوي الطائفي.
الحلف الذي لا يخرج أيضًا عن سياق المتاجرة السياسية، وانكشفت أخدوعة إيران ونواياها من دعهما ومساندتها لحركات المقاومة، لقد أدى ابتعاد أقطاب رئيسية في العالم الإسلامي والعربي عن حركات المقاومة في فلسطين إلى فقدان تلك الحركات الحاضنة الإسلامية والمظلة السياسية لها في مشروعها التحرري ضد إسرائيل، حينما استجابت تلك الدول والأقطاب للضغوطات الأمريكية والصهيونية التي تمثلت في فرض مزيد من العزلة السياسية والحصار المالي، ووقف كل أشكال الدعم والمساندة لكل من يقاوم أو يعادي إسرائيل، أدى ذلك الهجران العربي والجفاء الإسلامي الرسمي لحركات المقاومة في فلسطين إلى اندفاع تلك القوى والحركات إلى إيران بديلاً عن ذلك الراعي المفقود من العالم الإسلامي السني.
وقد فتحت إيران أبوابها وقدمت كل أشكال الدعم لتلك الحركات، حيث وجدت في ذلك فرصة ذهبية للعب دور أقوى في المنطقة، وهذه مداخيل رئيسية لشغل موقع رئيسي ودور مؤثر في المنطقة من خلال امتلاك أوراق ضغط رئيسية في القضية الفلسطينية، ونتج عن ذلك اعتبار إيران أحد اللاعبين الأساسيين في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، ويؤخذ بعين الاعتبار دورها وتأثيرها في أي اتجاه من اتجاهات العلاقة مع إسرائيل سواء في السلم أو الحرب، إلا أن الموقف الإيراني من الثورة السورية ودعمها للنظام الاستبدادي السوري قلب كثير من المعادلات.
وأيضًا لا يتسع المقام هنا للحديث عن جرائم الحرس الثوري الإيراني بحق الشعب السوري التي تجاوزت كل الحدود والأعراف، وأصبحت مضايا والزبداني ومن قبلها مخيم اليرموك شاخصة على حجم وفظاعة وقساوة إجرام ايران وحزب الله، لقد أسقطت الثورة السورية كثير من القامات والخامات والشعارات الجوفاء، لم تقف عند كشف زيف القيم الإنسانية الغربية، وفضح أكذوبة حقوق الإنسان التي يتاجر بها الغرب بغية السيطرة والهيمنة على ثروات ومقدرات الأمة العربية ومن أجل تحقيق أطماعه الاستعمارية، بل كشفت زيف العمائم السود أيضًا وأماطت اللثام عن دعية حزب الله في المقاومة، وكان من أعظم تجليات وبركات الثورة السورية أنها نزعت عنه ثوب العزة والبطولة التي كان يتفاخر بها لحروبه مع إسرائيل، ولم يعد يحظى بتلك المكانة في أوساط الجماهير العربية والإسلامية التي في معيارها وميزانها لا تقل دماء الطفل السوري في دمشق وحلب والزبداني غلاوة وقيمة عن دماء الطفل الفلسطيني في غزة ورام الله ونابلس والخليل، ولم يعد ينطلي عليها أخدوعة المقاومة والتحرير التي ستأتي عبر جماجم الشعب السوري، بل ومن خلال الإبداع في تجويعه وانتهاك حرماته ودوس كرامته.
كما وفي دينها وعقيدتها فإن أرواح البشر وأعراضهم أكثر قداسة من الأقصى ومن فلسطين، حتى هنا ثمة شريحة نخبوية لم تر مستورًا تم كشفه، ولا جديدًا أحدث صدمة، هي فئة سبقت غيرها في الغور في أسبار الشيعة؛ عقائدها، أسرارها وبطائنها، فلم تفاجأ يومًا حتى بحجم وشكل جرائمهم في سوريا والعراق، ولم تنخدع يومًا بتوابيت التشييع عند حزب الله، وان كانت تلك الفئة سجلت تعاطفًا يومًا ما مع حزب الله في حربه مع إسرائيل، لكن المستور الذي كشفته الثورة بحق، ما كان من الذين ذبحوا العروبة باسم العروبة، بعضًا ممن رفعوا شعار القومية مكان التقديس، وقالوا دونها الدماء والارواح، ولم يكن أحد يعلم أن الدماء والأرواح المقصودة هي دماء وأرواح الشعب السوري، وأن واجبات القومية تعني الدفاع عن حزب الله والحرس الثوري الإيراني الذي يفتك بمضايا والزبداني دفاعًا عن مقام السيدة زينب، لأن في ذلك دفاعًا عن حمى العروبة وفلسطين، وفي مقالة رائعة للكاتبة العراقية هيفاء زنكنة بعنوان “اللهم احفظ لنا بوتين ليواصل قصفنا”، نشر في القدس العربي بتاريخ 30 نوفمبر 2015 أشارت الكاتبةإالى ذلك القصف الإنساني المزعوم الذي تستدعيه النخب العربية، وكأن بوتين أصبح بطلاً قوميًا يذود عن حمى الديار العربية.
إن القومية بمعناها العميق الذي يعني اللغة والأرض والتاريخ والوحدة وتستمد مقوماتها وروح بقائها من الإسلام هي بريئة ممن انقلب على تلك المفاهيم والمعاني، وتجرد من العروبة تحت شعار العروب.
وهنا يوثق التاريخ على أرض الشام وعلى أنقاض ودماء وأشلاء شعب عربي سني، كيف كشف الطفل السوري، الذي يحاصره النظام وحزب الله وإيران في الزبداني ومضايا، الطفل الجريح، المجوع، الممزق، العريان، بأشلائه وآهاته ودماءه التقاء المصالح بين إسرائيل والأمريكيين وبين شيعة طهران، وكأن الزبداني ومضايا تشهد تجليات بصيرة الشاعر سميح القاسم حين قال:
“سقطت جميع الأقنعة، سقطت فإما رايتي تبقى وكأسي المترعة أو جثتي والزوبعة، سقطت جميع الأقنعة سقطت قشور الماس عن عينيك يا رجلاً يصول بلا رجولة، يا سائقًا للموت أحلام القبيلة، سقطت تماثيل الرخام، سقطت دموعك يا تماسيح التواريخ الطويلة، سقطت وأبراج الصقور انخدعت عشرين عامًا، أنا يا ضمير الأرض أبراج الحمام، سقطت أغانيك الحزينة، والأساطير الذليلة”.