لي أخ يكبرني بعامين التحق بالقسم الأدبي في الثانوية العامة وقد التحقت بالقسم العلمي بعده، وكانت دائمًا ما تنشب بيننا صراعات تدعمها أنماط من الجدال والنقاش الذي لا ينتهي وكانت تفرض علينا أمي حظر الكلام عندما يصل النقاش إلى حد الاحتدام إلى أن نُغيِّر موضوع النقاش ونفتح موضوعًا آخر يؤلف بيننا، وكان حظر الكلام في أغلب الأحيان عصيًّا علينا فكلانا كان يشحن للآخر ويود الانتصار لرأيه، وكان الوقت هو العامل المؤثر في تهدئة الجو فيصمت كلانا على مضض إذعانًا لقرار أمي، حتى تفرغ نفوسنا من الاحتقان كما يفرغ البالون من الهواء.
ومن بين النقاط التي كانت تشعل فتيل الصراع إصرار أخي ومحاولته إقناعي بأن المواد الأدبية أهم وأعلى قيمة من نظيرتها العلمية، وكنا نتقارع بالحجج والبراهين:
هو يقول: “ألا تدركين أهمية علم النفس والفلسفة والأدب؟”.
فأرد عليه: “ألا تدرك أهمية علم الأحياء والكيمياء والفيزياء؟”.
هو يقول: “قد لا يستطيع الإنسان النوم إذا كانت تشغله قضية فكرية، فهو بحاجة إلى رأي مفكر أو أديب أو فيلسوف ليشاركه ما يشغله، ومن ثم يرد حيرته”.
فأرد عليه: “وربما لا يسع الإنسان أن يحيى بدون الطبيب؛ فيُحرم النوم أيضًا من شدة الألم”.
ثم يعود فيقول لي: ” قد لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون الأديب أو الشاعر الذي يغذي روحه”.
وأرد عليه: “وقد لا يستطيع أن يعيش بدون المهندس الذي يخترع الأدوات التي تيسر له متطلبات حياته”.
وهكذا يدور النقاش بيننا إلى أن يحتدم ويدافع كل منا عن رأيه باستماتة ومن ثم تضيق أمي بنا وتعاقبنا بفرض حظر الكلام.
وبعدما حصلت على الثانوية العامة وعند كتابة الرغبات وددت لو ألتحق بكلية العلوم، لكن أمي أبت ونصحتني بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية زاعمة أن هذه الدراسة تتوافق معي، فخضعت لرغبتها؛ الأمر الذي أدهشني من نفسي بعد إعلامي بقبول كلية الآداب أوراقي، فحاولت مرات ثلاث تحويلها إلى كلية العلوم، لكن أبى الله إلا أن أُكمل بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية.
ولا أخفي عليك يا قارئي العزيز أنه بعدما انتظمت الدراسة في الكلية وتلقيت محاضراتي الأولى أدركت أن أمي أدرى بي مني فقد جذبتني الدراسة وجننت بها وراح اهتمامي بالمواد العلمية يتلاشى شيئًا فشيء إلى حد النسيان.
ولما تعمقت في الدراسة رأيت أن من مظاهر اكتمال الإنسانية أن أعترف لأخي بأنني كنت مجحفة في تقييمي للمواد الأدبية، وأنني قد لمست أهميتها وقيمتها.
تضاحك ثم قال: “دائمًا ما أسبقك فكريًّا”.
اغتظت من رده فقلت: “كنت حريًّا بأن تكون كذلك لو أخبرتني أن الاثنين سواء في الأهمية وقت اختلافنا”.
فابتسم ثم قال: “نعم .. الاثنين سواء في الأهمية”.
وبعد مرور أكثر من خمسة عشر عامًا على هذه النتيجة تعرَّفت مؤخرًّا إلى كاتبة، دار بيننا حديث وجدنا خلاله أن بيننا أرضية مشتركة في الميول وطريقة التفكير بجانب نشاط الكتابة وما يكتنفه من متاعب تذهب النوم وتشغل البال في أحيان كثيرة، ولما أمعنا في التعارف وجدتها تفضي إليَّ باعتراف خطير زاد من الأرضية المشتركة بيننا فقالت لي: “أتدرين يا أسماء؟ لقد كنت حمارة، كنت أعتقد أن المواد العلمية أهم من الأدبية، ولذلك التحقت بالقسم العلمي في الثانوية العامة وبعدها التحقت بكلية الهندسة، وبعدما قدر لي الله الشروع في نشر ما أكتب أصبحت أطلع على المواد الأدبية فوجدت أنها أوسع مجالًا وأعلى استهلاكًا للطاقة الذهنية”.
وما كان مِنِّي إلا أن أخبرتها بأنني لا أعجب لما توصلت إليه من نتائج بالتجربة لأنني ببساطة “كنت ذات الحمارة!”، فنسبة المواد الأدبية إلى المواد العلمية كنسبة الروح إلى الجسد لدى الإنسان، ونحن بحاجة إلى من يعالج الجسد إذا اعتل ومن يسرِّي عن الروح إذا ضاقت؛ إذًا فكلتاهما تكمل الأخرى.
ومن ثمَّ شرعتُ أفكر من أين أتى هذا المفهوم الضحل عن المواد الأدبية، ذلك المفهوم الذي كان يشعل الصراع بيني وبين أخي، فانتهيت إلى أنه مفهوم موروث لدينا على كل المستويات بدءًا من المستوى الرسمي الذي لا يكفل التقدير المادي والمعنوي اللازمين لكل من يخدم الإنسانية معنويًّا ووصولًا إلى مستوى الأسرة، أعني الآباء ورؤيتهم لدور الكاتب أو المفكر أو الأديب أو الفيلسوف وما إذا كان يرقى إلى أن يتمنوا لأبنائهم أن ينهضوا به، فهم يرون أنها ليست بالمهن التي يُحدد لها رواتب تكفُل لأصحابها عيشة كريمة، وأذكر أنني عندما شرعت في نشر ما أكتب أخبرتني كاتبة شابة إنني لن أعاني معاناة من اتخذ من الكتابة وسيلة لأكل العيش ما دامت لي وظيفة.
ومن أسباب عدم تقدير الأديب أو الفيلسوف أو الشاعر ماديًّا – فيما أرى – في أي أمة، يرجع إلى عزوف أغلب أفرادها عن القراءة، فهؤلاء أقلامهم وأفكارهم هي سلعتهم، وما أثمنها سلعة ولكن باعتباري قارئة.
فإذا ازدهرت القراءة راجت سلعهم وكان لهم عائد مادي يحفظ لهم حياة كريمة وتقديرًا معنويًّا واسع يشجعهم على الإتيان بالمزيد مما لديهم، وبالتالي تمنى الآباء لأبنائهم أن يصبحوا أدباءً أو فلاسفةً أو شعراءً أو مفكرين بجانب أمنياتهم أن يصبحوا أطباء أو مهندسين وأن لهم الخيرة في ذلك.