كيف استطاع الإسلاميون الأتراك أن يُروِضوا هذا الوحش الكاسر؟ كيف استطاعوا أن ينفُذوا فيه ويكون لهم دور مهم في مؤسساته؟ كيف تغلغلوا في أجهزة الدولة المدنية والشرطية والعسكرية والقضائية؟ كيف نجحوا في ذلك وفشل نظراؤهم المصريين – وإن كنت أرى المقارنة مجحفة -، لغز محير يحتاج لكثير من البحث والعمل والتدقيق، لأنك عندما تتكلم عن إسلاميي تركيا لا تتكلم عن فصيل واحد أو تيار أوحد، بل عدة فصائل وتيارات وتنظيمات، لها هياكلها وإداراتها وأعمالها وأفكارها وأطروحاتها.
قبل الحديث في الآليات التي اتبعها إسلاميو تركيا للنفاذ داخل هيكل الدولة العميقة لا بد أن نأخذ في الحسبان عدة نقاط مهمة، أولها أن هذه العملية لم تتم بين ليلة وضحاها بل هي نتاج لعمل سنوات طويلة منذ بداية التعدد الحزبي والسياسي في تركيا عام 1950، سنوات طِوال والحركات الإسلامية تحاول اختراق هذا الهيكل، تخطط وتنفذ، تفشل مرات وتنجح أخرى وتُكشف مخططاتها أكثر من مرة.
من النقاط الهامة أيضًا أن هذا الجهد والتخطيط لم يكن يحمل هَمه وعبئه فصيل واحد فقط، بل عدة فصائل منظمة تعمل كلها على هذا الاختراق، وكل فصيل وطريقته وذكائه وخبرته، كل فصيل له علاقاته وصِلاته، فقد يكون فصيل منهم في خلاف مع الحزب والحكومة الموجودة، بينما فصيل آخر علاقته جيدة معهم ويستفيد منهم، فتعدد التيارات الإسلامية المنظمة وقوتها كان من العوامل المهمة في نجاح هذا الاختراق.
أيضًا تكوين هذه التيارات وعملها كجماعات ضغط سياسي لا تشارك في السياسة بشكل مباشر، ولا تترشح في الانتخابات ولا تنافس فيها، جعل أغلب الأحزاب السياسية يجري وراء كسب دعمها، وهذا أعطاها فرصة أكبر لإملاء شروطها في بعض الحالات، والدفع بكوادرها داخل سلك هذه الدولة العميقة.
الفترات التي شاركت فيها حركة الفكر الوطني بقيادة نجم الدين أربكان في الحكومات الائتلافية عبر أحزاب أربكان المختلفة من السلامة الوطني مرورًا بالرفاة والفضيلة كان لها دور مهم في هذا الاختراق، فشراكة حزب السلامة الوطني في الحكومات الائتلافية ولو بوزير أو نائب وزير واحد فقط كان الغرض منه بالأساس دمج كوادره وقياداته داخل سلك الدولة العميقة، ودائمًا ما كان أربكان في الحكومات الائتلافية ما يضع عينه على وزارة التعليم أو الداخلية ليوطن كوادره فيها.
أولًا: التعليم
كانت من أهم الوسائل التي تبنتها الحركات الإسلامية لاختراق الدولة العميقة التركية، إنشاء المدارس العامة ومدارس ودورات الأئمة والخطباء ومراكز تحفيظ القرآن، ثم توطين هؤلاء الطلاب داخل هياكل الدولة المختلفة.
ساهمت حكومات أحزاب أربكان الائتلافية في التوسع في مدارس الأئمة والخطباء، وأصبحت مدارس جاذبة للطلاب وخصوصًا في منطقة الأناضول ذات الكثافة السكانية والطبع المحافظ، الاهتمام بهؤلاء الطلاب وتبنيهم ثم بعد ذلك توجيههم ناحية مراكز الثقل والقوة داخل الدولة، فعلاقة الحركات الإسلامية بطلابها لا تنتهي بعد مرحلة الدراسة بل يستمر التواصل بعدها.
توسعت هذه الحركات في بناء مراكز إيواء الطلاب المغتربين، وكانت تمتاز هذه المراكز بانخفاض أسعار السكن بها وتوفر خدمات كثيرة، فكانت هذه المراكز تعمد إلى استهداف الطلاب وخصوصًا طلاب الكليات العسكرية والشرطية من المغتربين، وتزرع فيهم قِيَمها ومبادئها ثم تُطلقهم بعد ذلك لينطلقوا ويتغلغوا داخل هياكل الدولة.
مدارس فتح الله كولن وحركة الخدمة كان لها دور كبير في هذا المجال، حيث إنها مدارس تمتاز بالقدرة التعليمية الممتازة، كما أنها ليست مدارس علم شرعي وقرآن، بل هي مدارس تُدرِس العلوم والفنون والرياضيات كالمدارس الحكومية، ولكنها أعلى كفاءةً ومنتشرة حتى خارج تركيا، تستهدف الطلاب المتفوقين في جميع أنحاء البلاد وتتبناهم وترعاهم، وتدفعهم للتوجه ناحية مجالات معينة وتخصصات محددة داخل هيكل الدولة، بعد أن تكون ربتهم على عينها.
ثانيًا: المؤسسات المدنية
اعتمدت الحركات الإسلامية التركية إستراتيجية فتح القلعة من الداخل، فكانت حكومات أربكان الائتلافية لا هم لها سوى زرع قياداتها وكوادرها داخل الدولة، فاشتراك حزب السلامة الوطني في الحكومة الائتلافية عام 1974 لم يكن الغرض منها إلا هذا التغلغل، وكان هذا السبب من أكثر الأسباب التي تثير المشاكل مع شريكهم الائتلافي، ففى سبتمبر 1974 تقدم رئيس الوزراء بولنت أجاويد باستقالته لرئيس الجمهورية لأنه لن يسمح لشريكه في الائتلاف الحكومي – حزب السلامة الوطني – باختراق مؤسسات الدولة.
المرحلة الثانية لاختراق هياكل الدولة المدنية كانت في فترة الرئيس تورجوت أوزال الذي اختارته قيادة انقلاب 1980 لرئاسة الوزراء عام 1983، وهو سياسي تربى في بيئة صوفية نقشبندية محافظة، كان عضوًا بحزب السلامة الوطني وبعد حله عقب الانقلاب كوَّن حزب الطريق الأم مع بعض الإسلاميبن الآخريين ممن لم تمسسهم مقصلة الانقلاب.
استطاع الإسلاميون في هذه المرحلة اختراق الشرطة والقضاء عن طريق السماح لخريجي مدارس الأئمة والخطباء بالعمل في وزارة الداخلية والعدل، وانتشروا داخل وزارة التعليم وكثر عدد المعلمين المنتمين لهذه الحركات، وتولى خريجو هذه المدارس رئاسة بلديات لأول مرة منذ عهد الدولة العثمانية، وامتدت يد الإسلاميين إلى كل وزارات الدولة ما عدا الخارجية التي كانت عصية عليهم نوعًا ما في هذه الفترة.
وصل هذا الاختراق قوته في منتصف التسعينات، فرُفع تقرير لرئيسة الوزراء تانسو تشللر عام 1995 يقول إن 364 مدير أمن من أصل 810 يرفضون مصافحة النساء، و330 نائبًا وقاضيًا من أصل 1709 قد تم تعيينهم في وزارة العدل في الفترة من 1987 إلى 1991 من خريجي مدارس الأئمة والخطباء وقسم منهم يؤمنون بتطبيق الشريعة الإسلامية.
ثالثًا: الاقتصاد والإعلام
الاقتصاد من أهم عوامل السيطرة والتغلغل داخل أي نظام، ومن يملك اقتصاد قوي يستطيع مع قليل من التخصص أن يصنع إعلامًا قويًا، الحركات الإسلامية التركية بدأ نشاطها الاقتصادي بعد انتهاء فترة الحزب الواحد، ومع بداية عهد عدنان مندريس بدأ ظهور طبقة الإسلاميين الاقتصاديين في منطقة الأناضول، وهم مجموعة من رجال الأعمال متوسطي الدخل نشطوا في مجال الزراعة وما يخصها من توكيلات مثل الآلات الزراعية والأسمدة، وتكونت منهم نواة رجال الأعمال الإسلاميين، وكان أغلبهم من أتباع الطريقة النقشبندية والنورسية.
ومع ظهور أربكان وأحزابه وتبنيه لفكرة الدفاع عن الكادحين وتطوير تركيا إلى بلد صناعي، ازدهر الوضع الاقتصادي للإسلاميين وتطور النشاط الاقتصادي ولم يعد يقتصر على الزراعة وتوابعها، ومع فترة الرئيس تورجوت أوزال الذي انتهج السوق الحر والاقتصاد الليبرالي، ظهرت طبقة قوية من رجال الأعمال الإسلاميين، وأسسوا بنوك إسلامية وشركات صناعية ضخمة مثل بنك أسيا والنهضة وشركة إخلاص هولندنج العملاقة ومجموعة نمور الأناضول الخضر القابضة، وأسس أربكان جمعية رجال الأعمال والصناعة الأتراك (موسياد) والتي تضم 2600 رجل أعمال، 4000 شركة داخل تركيا و350 شركة خارج تركيا.
أما مجال الإعلام فقد سلكوا فيه طريقًا طويلًا منذ أيام أتاتورك، فأقاموا أولًا دور النشر العلنية والسرية لنشر كتب التراث والشرع والدين، ومع بداية فترة الانفتاح السياسي توسعوا في دور النشر وإصدار المجلات والجرائد الدورية، حيث تستحوذ دور النشر الإسلامية على 30% من إنتاج النشر والطباعة في البلاد، ولدي جموع الإسلاميبن ما لا يقل عن 50 جريدة ما بين يومية وأسبوعية منها السياسي والدعوي والمتنوع.
ومع عام 1986 سمحت الدولة بإنشاء القنوات التليفزيونية، وأصبح لكل حركة قناة بل وأكثر من قناة تابعة أو مؤيدة بطريقة أو أخرى، وكذلك أسسوا قنوات إذاعية FM تعبر عن توجهات هذه الحركات، ودخل الإسلاميون مجال وكالات الأنباء فأسست حركة الخدمة وكالة جيهان التابعة لها، ولدى حركة الخدمة وحدها 13 قناة تليفزيونية أوقفتها الحكومة في خضم صراعها الأخير مع الحركة.
بهذه المحاور الثلاثة الرئيسية استطاع الإسلاميون الأتراك التغلغل الناعم داخل هيكل الدولة وابتلاعها وإعادة هضمها وهيكلتها لتتوافق مع أهداف الحركات الإسلامية.