أمام استمرار هبوط أسعار البترول عن السعر التخميني له في موازنة 2016 التي أقرها البرلمان العراقي، تتواصل التكهنات وتثار الشكوك حول إمكانية الحكومة العراقية في تأمين الإيرادات اللازمة لتمويل بنود النفقات المختلفة المحددة في الموازنة، وفي مقدمتها الرواتب التي تشكل مصدر الدخل الأساسي في المجتمع العراقي؛ إذ بدأت مواقع التواصل الاجتماعي تتناقل إشاعات حول سيناريوهات لمواجهة عجز الموازنة المتوقع منها، إيقاف الرواتب لنسبة عالية من الموظفين أو منح إجازات إجبارية، أو خفض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار، أو غيرها من السيناريوهات التي تفرض نفسها على المواطن العراقي المعني المباشر والمتضرر الأكبر من استمرار هبوط أسعار البترول.
وبغض النظر عن المستوى الذي يتوقع أن تستقر عنده أسعار البترول، والذي قد يتراوح ما بين 35 – 25 دولارًا للبرميل، فإن الحكومة العراقية تقف اليوم أمام تحدٍ اقتصادي ربما لم تواجه مثله من قبل؛ فهي مسؤولة عن تأمين دخول ما يزيد عن ثلاثة ملايين موظف مع عوائلهم أي ما قد يصل إلى 50% من أفراد المجتمع، إلى جانب الاعتماد شبه التام على الحكومة في توفير العديد من الخدمات مثل الصحة والتعليم والماء والكهرباء من دون مقابل أو بأجور زهيدة نسبيًا.
فما هي الخيارات المطروحة لمواجهة هذا التحدي؟ وما هي التكاليف الذي سيدفعها المجتمع مقابل كل خيار من هذه الخيارات؟
الخيار الأول هو التوقف عن دفع الرواتب وتسريح الموظفين أو نسبة عالية منهم، مثل هذا الخيار ستكون عواقبه كارثية ليس على الحياة الاقتصادية فحسب وإنما على إمكانية بقاء نظام السياسي الحالي، واستمرار الدولة العراقية لاسيما وهي تواجه اليوم واحدًا من أخطر التحديات عبر تاريخ العراق وهي استعادة المدن التي سيطر عليها تنظيم داعش.
بعيدًا عن العواقب الاجتماعية والسياسية، تتمثل العواقب الاقتصادية بهبوط مستويات الدخول بعدة أضعاف تخفيض الإنفاق الحكومي نتيجة تسريح الموظفين وإيقاف رواتبهم، وهذا يعني ركودًا خانقًا يشمل القطاعات المختلفة، التي سوف تتأثر بشكل كبير بسبب هبوط دخول الطبقة المتوسطة من الموظفين، إذ تشكل دخول هذه الطبقة المحرك الرئيس لعجلة توليد الدخل في السوق العراقي، فهي طبقة تتميز بارتفاع ميولها الاستهلاكية، ويشكل إنفقها الخاص مصدر الدخل الأساسي للعاملين في القطاع الخاص، يضاف إلى ذلك أن تسريح الموظفين سوف يعيق الحكومة عن تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين ويفرض ضغطًا على الخدمات التي يقدمها القطاع الخاص ما يرفع من وتيرة أسعارها، وهذا يعني زيادة معاناة ذوي الدخول المنخفضة الذين ستتضاعف أعدادهم بسبب التوقف عن دفع رواتبهم.
الخيار الثاني، الاستمرار في دفع الرواتب مع خفض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار، وهذا يعني ضمنًا خفض القوة الشرائية للدينار العراقي، لكن هل سيتمكن البنك المركزي العراقي من الحفاظ على قيمة الدينار عند المستوى الذي يحدده؟ من الصعب جدًا تحقيق ذلك فخفض قيمة العملة سيضعف الثقة بالدينار العراقي إلى حد كبير، ما يدفع للتخلص منه لصالح أصول أخرى كالذهب والفضة وهذا يعني مزيدًا من خفض قيمة الدينار وصولاً إلى الانهيار الكامل للعملة العراقية، والتحول نحو الدولار وغيره من العملات، ما يعني العودة إلى الوضع الذي ساد البلد فترة الحصار الاقتصادي، وانحدار طبقة الموظفين مرة أخرى نحو المستويات المعيشية الدنيا، وذهاب جهود البنك المركزي خلال العقد الماضي في الحفاظ على استقرار العملة العراقية سدى، إلى جانب الدخول في نفق الركود التضخمي -ارتفاع الأسعار مع هبوط الدخول وانتشار البطالة وتوقف الأعمال – وهي من أسوأ الأوضاع الاقتصادية التي يمكن أن يمر بها اقتصاد أي بلد.
الخيار الثالث، وهو خيار قلما يطرح أو يتداول هذا الخيار هو التحول نحو التمويل الذاتي، الذي يتمحور حول تقديم الخدمات العامة مقابل رسوم تغطي جزءًا كبيرًا من التكاليف التي تتحملها الدولة، إذ يمكن تطبيق هذا الخيار في قطاعات واسعة مثل الصحة والتعليم العالي والكهرباء والماء إلى جانب دوائر إصدار الوثائق الشخصية.
إن هذا الخيار سيوفر مصدرًا مهمًا لتمويل العجز في الموازنة وستتحمل كافة فئات المجتمع تكاليفه، مقابل الحفاظ على المصدر الرئيس لتوليد الدخل وهو الرواتب الحكومية، ويمكن للحكومة أن تخفف من العبء الذي سيتحمله المجتمع من خلال الضغط على الموظفين لتحسين مستويات الخدمة المقدمة بما يقنع المستفيد بأن ما يدفعه هو لقاء المستوى الأفضل من الخدمات، إلى جانب هذا التوجيه ثمة إجراءات داعمة لتوليد الدخل والحفاظ على قيمة العملة في مقدمتها زيادة الضرائب الجمركية على السلع الاستهلاكية، وفرض قيود على تداول الدولار والعملات الأجنبية مثل حصر إبرام عقود الإيجارات والتوظيف والخدمات السياحية والبيع والشراء في السوق المحلي بالدينار العراقي، فمثل هذه الإجراءات سوف ترفع الطلب على الدينار العراقي وتزيد من قيمته مقابل الدولار ما يتيح للحكومة تمويل جزء من عجزها عن طريق زيادة الإصدار النقدي بما يتناسب وزيادة الطلب على الدينار العراقي.
إن السياسة المالية التي ظلت غائبة عن المشهد الاقتصادي في العراق لعقود طويلة، باتت اليوم فرس الرهان الوحيد الذي يتوقف عليه مستقبل الاقتصاد والدينار العراقي، ولم يعد البنك المركزي وحده قادرًا على إنقاذ مركب الاقتصاد العراقي من الغرق، بل لا بد اليوم من تفعيل أدوات السياسة المالية كالضرائب والرسوم لدعم الميزانية، ولا بد من التزام معايير الكفاءة الاقتصادية في جميع المرافق الخدمية العامة كي تنافس القطاع الخاص على دخول المواطنين وإعادتها إلى الميزانية بدل تسربها لجيوب المستثمرين الكبار ومنها إلى خارج البلد.