أحد أبرز الأسباب وراء تجنب تونس المسار الفاشل الذي وقعت فيه باقي دول الربيع العربي (مصر- ليبيا – سوريا – اليمن) هو حكمة ورجاحة عقل قيادات حركة النهضة، وهو السلوك الذي لا يعجب بعض الفاشلين وكأنهم أرادوا لتونس الفشل مثلهم كي يثبتوا لأنفسهم صواب رؤاهم وتصوراتهم الأحادية الجانب.
جاء تراجع النهضة عن الحكم ضمن تحالف الترويكا قبل وقت قصير من الحلول في المرتبة الثانية ضمن الانتخابات البرلمانية الأخيرة وهو الأمر الذي تعامل معه قادة النهضة بمنطقية وبسلوك يعكس قراءة صحيحة للواقع سواء الواقع الداخلي للحركة الذي ما يزال يحتاج الكثير من الوقت والعمل حتى تكون قادرة على التقدم لتحمل مسؤوليات الحكم وإقناع أغلبية الجمهور ببرامج ومشروع النهضة، فضلاً عن تنقية ذلك المشروع من بعض الأفكار والتصورات البالية التي لا تصلح لهذا العصر لا على مستوى الحركة والتحديات التي تواجهها ولا على مستوى الدولة الوطنية، وهي تلك الأفكار التي لازمت بداية نشأة الحركة وهو أمر سيعبر عنه التطور الفكري الذي من المنتظر إعلانه بشكل نهائي في المؤتمر القادم للحركة ويجري الإعداد له حاليًا من خلال اللقاءات وورش العمل التي تنظمها فروع الحركة.
ولعل إحدى تلك الأفكار هي الفصل الواضح والصريح بين العمل الدعوي والعمل الحزبي، بحيث تترك مهمة العمل الدعوي للمجتمع ومؤسساته وقواه المختلفة على أن يقتصر دور الساسة في هذا الإطار على زيادة مساحات العمل والمجال العام والحفاظ على مساحة الحرية بين الدعاة والمجتمع ليقوموا بدورهم بعيدًا عن اقتصار الدعوة على حزب أو جماعة بعينها، كما أن ذلك الفصل لا يعني تخلي هؤلاء الساسة عن مرجعيتهم الإسلامية كما يتوهم البعض بل يأتي ذلك في إطار من التخصص عملاً بالمبدأ القائل بأن شمولية الفكرة لا يتطلب شمولية الحركة، فالإسلام دين شامل لكن من الأنسب والأفضل أن تقوم بمهامه جماعات متخصصة حتى تؤتي ثمارها على كافة المستويات الدعوية والسياسية.
التحدي الآخر وهو التحدي الذي يأتي من خارج النهضة ويتمثل أولاً في عدم بناء نظام ديموقراطي مستقر بعد، فما زالت مكتسبات الثورة هشة وهو الأمر الذي لا يتناسب مع التقدم والتنافس المحمود على السلطة؛ لذا قررت النهضة أن تتراجع خطوات في سبيل تحقيق الهدف الإستراتيجي الأسمى وهو ما لا يدركه المنتقدون الذين يتعجلون النتائج بسبب سوء تقديرهم للواقع وعدم معرفتهم بأطراف المعادلة واعتقادات ودوافع كل منهم، فلا يشغلهم المبدأ والهدف وإنما يشغلهم “الصراع الإسلامي العلماني” الذي يحلو لهم غير مكترثين بأولوية “الصراع الديموقراطي الديكتاتوري” وغير متفهمين لحتمية التعايش وتقبل الآخر ما دام الاختلاف سياسيًا وبأدوات سلمية إلا أن هؤلاء المنتقدون يعتقدون أن صراعهم مع الآخر الذي قد يكون كل شرائح المجتمع عداهم صراعًا صفريًا ثم يتعجبون عند الخسارة!
ثانيًا وهو الواقع الإقليمي الذي يشهد تصاعد موجة الثورات المضادة وحرب حقيقية ضد حركات التغيير وهو الأمر الذي لا بد من التعامل معه بحكمة وحذر شديدين وأن يكون الهدف هو النجاة بتونس من ذلك المصير.
أما من يعتقد أن النهضة تفرط في الإسلام أو تتنازل عن بعض ما يوجبه فهو والجهل سواء، ذلك أن أغلب هؤلاء لا يبدو أن تصوراتهم للإسلام تختلف عن تصورات داعش وأخواتها وذلك هو نقيض الدين (أو قل نقيض مقاصده ومبادئه العامة) وما هو إلا ضلال وسوء فهم لمقاصد الإسلام ومبادئه من الشورى والحرية والعدل والسلام والتعايش والانفتاح على الآخر غير المسلم فما بالنا بالمسلم الذي يتبنى رأيًا سياسيًا مختلفًا فضلاً عن قيم الحياة والتنمية والرفاهية التي دعا الإسلام إليها، كما أن هؤلاء لا يدركون أن السبيل الأمثل لتحقيق تلك القيم والمقاصد لا يكون بالعنف والتشدد في الدين والتطرف بل يكون باللين والدعوة والسياسة.
ختامًا أقول إلى هؤلاء، اعلموا أن تجربة تونس سوف تنجح على المدى البعيد بفضل الله ثم بفضل حكمة ورجاحة عقل قيادات ذلك البلد الصغير الحجم من كافة الأطراف في الوصول إلى دولة تحقق المطالب العادلة لشعبها التي مات من أجلها بوعزيزي وثار الشعب في سبيلها.