بانعقاد مجلس النواب الجديد في مصر، تكتمل أركان مؤسسات الدولة، وتنتهي آخر مراحل استكمال مؤسسات الدولة الدستورية، هذا العنوان لعله ليس بالخبر السعيد بالنسبة لبعض الأوساط داخل المجموع الثوري المصري، باعتبار أن أي خطوة للأمام للنظام الحالي في مصر، يعني تدعيم مركز الانقلاب، وتراجع احتمالات نجاح أي ثورة جديدة أو استعادتها في وجدان الشعب المصري.
إلا أن التحليل المعمَّق للأمور، يقول بعكس ذلك؛ حيث إن هذا العنوان ومفرداته وما يتضمنه من دلالات، قد لا يكون بالخبر السعيد للنظام المصري نفسه!
وقد يتعجب البعض من هذا التقدير للموقف، إلا أن طبائع الأمور والقوانين التي تسير بها عملية السياسة والحكم، سوف تفرض أن تتحول هذه الخطوة، سواء انعقاد البرلمان أو البرلمان ذاته، إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه النظام لو أحسنت القوى الثورية استغلالها.
بداية، صحيح أن خطوة انعقاد البرلمان، تعني أن الدولة المصرية التي بدأت في استعادة موقعها بانقلاب 3 يوليو 2013، قد أسست لنفسها عهدًا جديدًا باستكمال أركان مؤسساتها مرة أخرى، بعد أن أطاحت بها ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وأنه بلا شك قد حقق النظام الذي أتى به الانقلاب انتصارًا بإعلان نجاحه في استكمال مفردات خطة “خارطة المستقبل”، التي أعلنها وزير الدفاع في ذلك الحين عبد الفتاح السيسي.
إلا أن هذا الأمر يعني كذلك – بداهةً – أن الأمور بعده لن تعود كما كانت قبله؛ فسوف تختلف مفردات الحياة السياسية والاجتماعية وصيرورتها في مصر إلى اتجاه لا يرغبه النظام.
فالنظام الحاكم في مصر، كان طيلة الفترة التي تلت الانقلاب، يتبنى خطاب “الصبر والثبات” مع المواطنين، وكان خطابه العام منصبًّا في الغالب على فكرة “أننا في مرحلة انتقالية”، وأن الشعب مطالب بالصبر على كل ما يحدث، بدءًا من انهيار قوة الجنيه بحوالي 11% من قيمته، وصولاً إلى قطع الأرزاق وشظف العيش، بسبب فشل الدولة في مكافحة “الإرهاب” والعنف السياسي والمجتمعي، في ظل اعتمادها على:
– مسكنات غير حقيقية في مضامينها لتحسين الواقع المعيشي والأمني والاقتصادي للمواطن.
– علاجات أمنية لمختلف المشكلات، بدءًا من الاعتصامات العمالية وصولاً إلى مطالب القوى الثورية التي ترى فيما يجري في مصر كارثة تفوق الأوضاع التي ثارت عليها في يناير 2011، بالرغم أن محتوى هذه المشكلات – حتى الإرهاب والعنف السياسي والمجتمعي – ليست ذات جذور أمنية، فهي إن أخذت أشكالاً ذات طابع أمني في بعض الأحيان، إلا أنها في النهاية ذات أصول سياسية واقتصادية واجتماعية، تتعلق بمظالم عديدة حاصلة على شرائح مجتمعية.
هذه الحالة الأخيرة تُعرف في العلوم السياسية، بأنها أحد مظاهر فشل الدولة؛ حيث تلجأ الدولة إلى استخدام الحق في العنف المشروع في غير غرضه، وهو إنفاذ القانون وتحقيق العدل والاستقرار؛ حيث تقوم الدولة بتوظيف العنف المشروع سياسيًّا لصالحها، وليس سياسيًّا بالمعنى الضيق الذي يخص بقاء واستقرار النظام، على حساب مطالب المواطن، التي هي من صميم وظائف الدولة.
ما بعد البرلمان الجديد في مصر سوف يعمل على تحليل هذه المعادلة، معادلة “الصبر والثبات والانتظار”، فلن تكون هناك نهايات أخرى للنفق، يعد النظام المواطن فيها بأن يكون على موعد مع الضوء.
قبل إعلان النظام عن نجاحه في الانتهاء من خطة خارطة “المستقبل” كانت نظرة التقييم لدى المواطن لأداء الدولة والحكومة مختلفة، وبالتالي سلوكه إزاء الإخفاقات والمشكلات القائمة، أكثر ميلاً للتريث في الإعلان عن حالة الغضب المكبوت.
الكثير من الدخان الأسود في صدور الشريحة الكبرى من المواطنين في الوقت الراهن، صار محتشدًا، وقاد إلى هذه الحالة، طول المرحلة الانتقالية والتي جعلت المواطن المصري يخوض فترة من الضنك والضيق، تجاوزت العامَيْن ونصف، وهي فترة طويلة على أي مجتمع أن يتحملها، خصوصًا وأنها وصلت إلى مستوى ظروف الحرب الفعلية.
وبالفعل، فإن السيسي أعلن رسميًّا في مستهل رئاسته، أن مصر في حالة حرب، في تكرار لسيناريو شوفيني آخر، تبناه جورج بوش الابن، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكانت النتيجة احتلال بلدَيْن إسلامي وعربي، وهما أفغانستان والعراق، وما تبع ذلك من مآسٍ مستمرة في العالم العربي والإسلامي، نتيجتها حروب أهلية ومجاعات وملايين القتلى والمشردين، وضياع دول بالكامل، كما في العراق وسوريا.
وفي مجتمع نامٍ مثل المجتمع المصري، ليس مؤهلاً فيه المواطن على المستوى الفكري والمعيشي لأية وقفات طويلة المدى مثل هذه الوقفة، فإن عواقب ذلك كارثية فيما يتعلق بواقع قبول المواطن لفكرة التضحية لأجل الوطن، والانصياع لأوامر الدولة، حيث الميل يكون لصالح فكرة العنف والتمرد في ظل حالة من التردي غير المسبوق في الأداء الاقتصادي، وتراجع غير مسبوق بدوره لدوره الدولة.
ولو قارنَّا هذه الحالة مع الفترة التي تلت حرب يونيو من العام 1967؛ فإننا سوف ندرك أنه لا يمكن بحال الموازنة بين الحالتَيْن؛ ففي السنوات ما بين يونيو 1967 وأكتوبر 1973، كانت الدولة قائمة وفاعلة، وكانت معدلات التنمية ودور الدولة الاجتماعي يفي بحاجة المواطنين، مع وجود تخطيط جيد نسبيًا لاستيعاب الجانب الاجتماعي للحرب المقبلة، بما في ذلك استضافة مليونَيْ نسمة من أبناء مدن القناة تم تهجيرهم إلى مدن الداخل.
كما كانت الحالة التنويرية والفكرية للمجتمع، على قدر من التأهيل السليم لاستيعاب هذا الوضع والقبول بتضحياته، بخلاف الحرب الأخيرة التي أعلنها السيسي من جانب واحد، ضد شريحة مجتمعية معتبرة وهي الإخوان المسلمين، وسائر المجموعات التي تؤيد الشرعية التي انقلب عليها الجيش بمساعدة قوى مدنية أخرى في الثالث من يوليو 2013.
ومن ثَمَّ؛ فإننا أمام مجتمع ينتظر الكثير مما لن يتحقق وفق الكثير من المؤشرات، حيث لا تملك الدولة بدائل تمكنها من إنجاز معدلات تنمية وتشغيل في وقت قياسي، خصوصًا وأن البرلمان الجديد، من خلال ما تم في الجلسة الافتتاحية وما تلاها، لا يبشر إطلاقًا بمؤسسة قادرة على التعامل مع الموقف الراهن في مصر بالفاعلية والسرعة المطلوبتين.
نجد أنفسنا الآن أمام حقيقة مهمة، وهي أن الشريحة الكبرى التي “صبرت واحتسبت” مع النظام الحالي، قد تحولت أو في سبيلها إلى التحول ببطء إلى شريحة ثورية، سوف تبحث عن منافذ ومنافس للتعبير عن سخطها، وهي فرصة ذهبية للقوى الطليعية التي لا تزال تتبنى الخط الثوري، والإخوان المسلمين وغيرها من القوى التي لا تزال على عهد الثورة.
فهدف هذه القوى، هو العمل على تثوير الكتلة الحرجة للشعب، والتي خرجت في الخامس والعشرين من يناير 2011 وما بعده، ولذلك فإن واجبها في الوقت الراهن، متابعة الأوضاع الداخلية عن كثب والعمل على تعظيم هذه الحالة واستغلالها، من أجل تثوير الشارع مرة أخرى واستعادة الحس الثوري لدى المواطن.
الخبر السيء الآخر في حدث البرلمان بالنسبة للنظام الحاكم في مصر حاليًا ويصب في ذات الاتجاه السابق، هو الحالة المزرية التي ظهر عليها البرلمان الجديد، والتي لا تليق بدولة ذات عمق حضاري وتاريخي مثل مصر، كانت من أوائل الكيانات المؤسسية التي ظهرت في التاريخ الإنساني، ولا يليق ببلد شهد ثورة احتفى بها العالم كله، وصارت أيقونة للإرادة الشعبية.
هذه الحالة المزرية، قادت مجموعات لا بأس بها من الشباب المصري، إلى المقارنة بين هذا البرلمان وبرلمان الثورة، وكيف كان، وكيف كان يناقش قضايا الوطن المهمة، وكيف كان هيئة ذات هيبة تليق بمصر وثورتها، وقادت هذه المقارنات إلى المزيد من التمسك بالشرعية بكل مفرداتها سواء الرئيس محمد مرسي أو برلمان الشرعية بمجلسَيْه الشعب والشورى.
وهو أمر بالفعل له أبعاد نفسية سوف يكون لها تبعاتها، فالمقارنة ما بين برلمان به الدكتور محمد سعد الكتاتني والدكتور سيف عبد الفتاح، ومجموعة من أهم قادة الرأي في المجتمع المصري، طابقت شهرتهم الآفاق بما أنجزوه في أيام الثورة، وبين مجموعة من المنتفعين والمتهمين في قضايا فساد، ولم يبخل الإعلام عليهم بأي خصوصية، حيث كشف الكثير من الأدران التي تشينهم وبالتالي تشين المجلس الجديد، وهو أمر منطقي، فثورة يناير قد اندلعت أول ما اندلعت لأجل برلمان التزوير الذي تمت مسرحية انتخاباته في عام 2010، وكان مطلب مكافحة الفساد والقضاء على مراكز القوى، أحد أهم أركان ثورة يناير، وكلا الأمرَيْن متوافر في البرلمان الجديد.
فشهادة الدكتور حازم عبد العظيم، وغيرها من الشهادات على مرحلة الإعداد لمجلس النواب الجديد وانتخاباته، تقول بعملية تزوير أوسع نطاقًا حتى من تلك التي وقعت في انتخابات مجلس الشعب في 2010، مع تدخل جهات سيادية في توجيه التصويت، وفي تشكيل الكتل البرلمانية بعد الانتخابات، بل ودخول الدولة في حرب مع نفسها في إطار صراعات الأجهزة على النفوذ في مجلس النواب الجديد، وفي النظام ككل، وهو أمر ليس بخافٍ على أحد.
كل هذا يجعل من البرلمان الجديد في مصر، مستهدفًا مستقلاًّ بذاته لعمل احتجاجي أو ثوري، وملف مهم من ملفات ثورة جديدة تتبلور في ظل عودة مظالم عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، بل وبشكل أسوأ.
وفي الأخير؛ فإن هذه الحالة من التردي التي بدا عليها البرلمان الجديد، ربما في نظر البعض، قد أسقطت أي شرعية لدولة 30 يونيو/ 3 يوليو، ودعمت كثيرًا من فكرة الثورة من جديد، من أجل تنظيف مصر مما طالها من أدران مرحلة الانقلاب.