ما يجري في محافظة ديالى العراقية ذات الأغلبية السنية من تهجير وتغيير ديموغرافي ممنهج واعتقالات وقتل على الهوية وتفجير منازل ومساجد واختراق إيراني عسكري، ليس ردات فعل على تفجير هنا أو هناك، فالخطير والمسكوت عنه من قِبل كثيرين، أن هناك مخططـًا إيرانيًا استيطانيًا استئصاليًا يسعى منذ سنوات لتغيير ديموغرافية المناطق والمحافظات السنية في العراق وخصوصًا “ديالى”، تلك المحافظة الهامة في مشروع “إنشاء الهلال الشيعي”، والمنفذ على الأرض هي المليشيات العراقية المرتبطة بإيران، فعلى سبيل المثال لا الحصر أقدمت إيران عبر تلك المليشيات على إحلال عشرات الآلاف من عناصر شيعية متعددة الجنسيات محل السكان الأصليين من السنة، كما حدث في عدة مناطق بالبصرة وحزام بغداد وديالى وسامراء، ودائما كانت “حجة” المليشيات الشيعية المرتبطة بالأحزاب الحاكمة في العراق وفي مقدمتها مليشيا “الحشد الشعبي” أن تحركاتهم هي للحرب على “داعش”، والحقيقة التي بات العالم بأكمله يدركها اليوم هي أن هناك حربًا شعواءً لاستئصال المكون السني من العراق.
صحيح أن التدخل الإيراني “الفج” في عموم العراق بات معلومًا للقاصي والداني وحتى التصريحات الرسمية الإيرانية لا تنكر ذلك بل تتفاخر به، حتى إن قائدًا إيرانيًا جهر بالقول إن بغداد عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، ولكن من المهم لنا أن نعلم أن تدخل الجمهورية الإيرانية في المحافظات العراقية يختلف جذريًا عن تدخلها في محافظة ديالى، فهو هنا أكثر تخطيطًا ومنهجية وعمقًا ودموية، إلى حد إشراف قيادات الحرس الثوري الإيراني والباسيج و”إطلاعات” على كل كبيرة وصغيرة فيه.
فسيطرة المليشيات العراقية المرتبطة بإيران على “ديالى” سيضمن لطهران بحسب إستراتيجيتها التوسعية تأمين ما يسمى “الهلال الشيعي”، كما سيحقق أحلام نظام “ولاية الفقيه” في ربط إيران بسوريا عبر السيطرة على ديالى والأنبار وصولًا إلى دير الزور، ولا ننسى أن القيادي في الحرس الثوري الإيراني الجنرال حسين همداني، أكد أن النفوذ الإيراني امتد اليوم إلى بغداد وسامراء وحتى ضفاف البحر الأبيض المتوسط، في إشارة منه لسوريا ولبنان.
تقع محافظة ديالى بالجهة الشرقية من العراق وتبعد عن العاصمة بغداد 57 كيلومترًا من ناحية الشمال ويمر بها نهر ديالى الذي يصب بنهر دجلة، وقد عرفت ديالى تاريخيًا باسم “طريق خراسان”، وهي درة المشروع الإيراني في المنطقة، وخسارتها بالنسبة لطهران تعني وأد أحلام “خامنئي التوسعية” ليس في بلاد الرافدين وحدها وإنما في المنطقة بأكملها.
مأساة المقدادية
كان لا بد أن نذكر ما ذكرنا الآن حتى يفهم البعيد عن الأحداث ما الذي جرى في “المقدادية” قلب ديالى، فعلى إثر انفجار نفذه تنظيم الدولة أو ما يعرف باسم “داعش” في مقهى بالمقدادية، أقدمت المليشيات الشيعية على تفجير 9 مساجد للسنة في ديالي كان منها (الجامع الكبير، جامع الأورفلي، جامع القدس، جامع القادسية، جامع المثنى بن حارثة، جامع نازندة خاتون وغيرهم)، وقامت المليشيات بخطف وقتل وتهجير العشرات من المواطنين السنة في قضاء المقدادية.
وقد أكد عمر الحميري محافظ ديالى السابق أن “المليشيات الشيعية أعدمت أكثر من 90 شابًا من أهالي السنة في المقدادية، وقد أعدمتهم داخل منازلهم أمام أنظار القوات الأمنية العراقية”.
كما اغتال مسلحون مجهولون صحافيين يعملان لصالح قناة الشرقية العراقية في محافظة ديالى شمال شرق بغداد، وكانت جريمتهم الوحيدة أنهم نقلوا للعالم ما حدث من إرهاب مليشياوي استهدف الأبرياء، كما طالبت المليشيات وعبر مكبرات الصوت عوائل المقدادية بالخروج منها وإلا سيكون مصيرهم القتل.
وعلى إثر ذلك، دشن رواد “تويتر” وسمًا حمل عنوان “#انقذوا_سنة_ديالى”، طالب إعلاميون عراقيون من خلاله الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الكشف عن جرائم المليشيات أمام المجتمع الدولي.
مخطط مكتمل الأركان
بذريعة محاربة تنظيم الدولة أو داعش، تقوم المليشيات العراقية الشيعية منذ سنوات بتهجير عشرات الآلاف من السكان السنة من قراهم ومناطقهم في ديالى، وما يثبت ذلك شهادة أحد وجهاء قبيلة الجبور في المقدادية، الشيخ نزهان خلف حيث نبه أن المناطق التي انتشرت فيها ميليشيا بدر الشيعية كانت هادئة وليس فيها مشاكل تستوجب استدعاء هذه القوة، مبينًا أن المبرر الوحيد لوجودهم هو تنفيذ مخططات السيطرة الطائفية على المحافظة، والتي فشلت فيها الميليشيات الشيعية طيلة السنوات الماضية، موضحًا أن الرابح الأكبر في الوقت الحالي هي الميليشيات الشيعية التي حظيت بكل أنواع الدعم من الغطاء الجوي الأمريكي والدعم المالي الحكومي والاستشارات والخبرات الإيرانية، في سبيل تحقيق هدفها المتمثل في السيطرة على المناطق السنية وطرد أهلها منها، منوهًا إلى أن كل هذه الأفعال تتم تحت لافتة محاربة التنظيم ومساندة الجيش العراقي.
يقول النائب عن محافظة ديالى رعد الدهلكي، إن ما يحدث ليس تطهيرًا طائفيًا وحسب، بل وتغيير ديمغرافي كامل، ويؤكد أن ما تقوم به المليشيات يثبت أن مخططًا جهنميًا ينتظر المحافظة.
وتبدو ملامح مخطط فيلق القدس الإيراني واضحة في مناطق شرقي محافظة ديالى، وتتمثل في إبعاد الكتل البشرية السنية عن الحدود الإيرانية، وتفريغ المنطقة من سكانها الأصليين، وإحلال سكان شيعة فيها مستقبلًا، وهناك حديث يدور علنًا في المحافظة يفيد بأن عائلات منتسبي الحشد الشيعي وهم بالآلاف وكثير منهم من خارج المحافظة، سيتم إسكانهم في نواحي السعدية والمنصورية وجلولاء وقراها الممتدة من المقدادية إلى خانقين.
في حين يرى أستاذ التاريخ ياسين الجبوري، أن هناك خطة ممنهجة تتبعها الميليشيات لدفع الأهالي للنزوح عن مناطق تعتبر خالية من الإرهاب في ديالى، كمناطق بلدروز ومركز قضاء المقدادية ومدينة بعقوبة، يتم ذلك عبر عمليات الخطف والاغتيال المنظم لشريحة الشباب، حتى بلغ معدل القتل في المقدادية وحدها من 7 إلى 10 حالات يوميًا، وهي حالات يوثقها “الحراك الشعبي” ويرفعها لنواب ديالى دون جدوى، ودفع ذلك الكثير من العوائل للمغادرة خوفًا، حيث لا جهات أمنية يتم اللجوء إليها، في ظل سيطرة الميليشيات التي باتت السلطة الأمنية شبه الوحيدة في المحافظة.
وعن الأهمية الإستراتيجية لمحافظة ديالى، يقول الإعلامي والمحلل العراقي عامر الكبيسي، إن المقدادية أهم مناطق العالم، فهادي العامري يهدد بشكل مباشر بلا لبس ولا تأويل سكان ديالى وتحديدًا سكان المقدادية وتحديدًا سكان المنصورية وقالها بالنص: “اخرجوا فورًا من بيوتكم، لن نرحم بالقصف في المقدادية وخاصة المنصورية، وكلامه رسالة في فيديو لا لبس فيه، والحجة هي الإرهاب لكن الهدف شيء آخر يعرفه هادي العامري جيدًا، كما يعرفه كل خبير، ثم ستضاف عشرات الآلاف من العائلات لقائمة النزوح من ديالى”.
وتابع: “أمن العالم في الشرق الأوسط ، وأمن الشرق في العراق، وأمن العراق في ديالى، وأمن ديالى في المقدادية وأمن المقدادية في المنصورية، ولكن بعض السياسيين الطارئين يسخرون من هذا الوصف، لأنهم لا يفهمون عمق المعادلات العراقية وعلاقتها بالعالم وخاصة أمريكا وإيران، لكن هادي العامري وقاسم سليماني يعرفان الأهمية الكبرى لهذه المناطق، هم كذلك يدركون أن داعش لن تصل لها مطلقًا ولن تجابههم في الذهاب للمقدادية، بل ستعمل على تسهيل النزوح وتعطي القوارب لمن يريد عبور الأنهار كما فعلت في يثرب، ولن تقترب داعش من المقدادية، فوظيفة داعش معلومة من أول دخولها الموصل، وهو ما قررته هنا مرات ومرات، ربما سيقتربون فقط اقتراب “إعلام” صورة هنا وفيديو هناك ثم يغادرون، وتقع على رأس أهل المقدادية، ستمر أيام عصيبة بلاشك على ديالى، وتهجير مضاف، والعراق لا دولة ولا حكومة ولا برلمان”.
الأخطبوط الإيراني
أكدت مصادر من المعارضة الإيرانية أن فيلق قدس الإيراني أنشأ غرفة عمليات في ديالى، وتحديدًا في قضاء الخالص تحت إشراف الجنرال قاسم سليماني، وتضم الغرفة التي يقودها زعيم منظمة بدر النائب هادي العامري، قائد شرطة ديالى الفريق جميل الشمري، ورئيس مجلس المحافظة مثنى التميمي، وقائم مقام الخالص عدي الخدران، ومعاون رئيس عصائب أهل الحق قاسم أبو زينب، وعددًا من قادة مجاميع الحشد الشعبي، و3 ضباط إيرانيين عُرف منهم العميد مهدي خسروي.
وتتولى “الغرفة” عمليات تهجير سكان القضاء وأغلبهم من السنة العرب، إضافة إلى غرفة أخرى في ناحية العظيم التي تفصل المحافظة عن محافظة صلاح الدين، وغرفة عمليات ثالثة في ناحية المنصورية ومسؤوليتها تشمل مناطق حوض حمرين وقاطع ناحيتي السعدية وجلولاء، وأكدت المصادر أن عدد العناصر المرتبطة بغرفة عمليات فيلق القدس الإيراني في المحافظة يقدر بأكثر من 30 ألف مسلح ينتمون إلى مليشيا بدر بقيادة هادي العامري، وعصائب أهل الحق برئاسة قيس الخزعلي، ومجاميع مسلحة من حزب الله وكتائب العباس وسرايا الزهراء وفصائل أهل البيت، إضافة إلى 3 أفواج شرطة نسبها قائد شرطة المحافظة جميل الشمري، للعمل تحت إمرة قيادات ما يُسمى بـ “الحشد الشعبي”.
كما أكد مصدر كردي مطلع، أن قوات كبيرة من ميليشيا خراسان الحليفة لإيران، باتت تحكم سيطرتها على منطقتي السعدية وجلولاء التابعتين لمحافظة ديالى، ولفت إلى أن “عدد عناصر تلك الميليشيا التي جرى نشرها في المنطقتين، يقدّر بالمئات، وشوهدت وهي تتمركز في أربعة مواقع على الأقل، ولا تقوم بتمويه تواجدها بل تتحرك وتظهر وجودها وتعلن عن نفسها”.
كما حذر مؤتمر لعشائر محافظة ديالى عقد في وقت سابق، من “استباحة المناطق السنية المحررة من قِبل ميليشيات تصفها الحكومة العراقية بالداعمة للقوات المسلحة”، وأكد شهود عيان شاركوا في المؤتمر أن “الميليشيات الشيعية ارتكبت جرائم كبيرة بحرق المنازل وإتلاف المحاصيل الزراعية في الأرض، ومنع العوائل السنية من العودة إلى منازلهم”، متهمين إيران بـ “توجيه تلك الميليشيات للقيام بأعمال شائنة ضمن مخطط لتغيير ديمغرافي مخطط له”، ودعا شيوخ العشائر في بيان عقب المؤتمر الحكومة العراقية لوضع حد لما أسموه بـ “الخروقات الخطيرة”.
عجز أم تواطؤ رسمي
من المسلمات أن ما يحدث في ديالى لا يخفى على أحد في العراق وخصوصًا المسؤولين العراقيين وهم بين عاجز أو متواطئ و أو محرض، وقد اتهم عضو مجلس شيوخ محافظة ديالى، الشيخ محمود النداوي، الحكومة العراقية بـ “الوقوف خلف مخطط تقسيم المحافظة وإقصاء المكون السنّي منها”، وأكّد الشيخ أن “الحكومة عمدت إلى عدم تسليح العشائر السنية في ديالى والمحافظات الأخرى، مقابل تسليح المليشيات الطائفية تحت مسمى (الحشد الشعبي)، ليتسنى لهم إحداث تغيير ديمغرافي كما يحلو لهم من دون أي مقاومة تذكر”، ودعا الشيخ الدول العربية والمنظمات الدولية إلى “الوقوف ضد هذا المخطط، ودعم العشائر السنية التي تهجّر من مناطقها ويُخطف ويقتل أبناؤها أمام مرأى وبمساعدة الأجهزة الأمنية”.
استغاثات المرجعيات والقوى العراقية السنية
استنكرت هيئة علماء المسلمين في العراق “العمليات الاجرامية” من قِبل الميليشيات الطائفية والحشد الشعبي في محافظة ديالى وباقي المناطق السنية بحجة مقاتلة عناصر تنظيم داعش، وأدانت هيئة العلماء إرهاب الميليشيات المنظم والمدعوم حكوميًا وإقليميًا، فهي ترى فيه امتدادًا لعقلية المد الإيراني في السيطرة على العراق عن طريق افتعال الأزمات وحماية المكاسب وتحقيق الأغراض الدنيئة التي تخالف شرع الله تعالى والقيم الإنسانية التي جبل الله الناس عليها”.
وأكد الشيخ فاروق الظفيري الناطق باسم الحراك الشعبي السني في العراق، أن عقد مؤتمر لزعيم مليشيا بدر هادي العامري قبل يوم من أحداث المقدادية في معسكر “مجاهدي خلق” ولقاءه بالعشائر السنية والشيعية كان للتغطية على الجريمة قبل حدوثها وهذا يؤكد سبق النية والتخطيط لتدمير مساجد المقدادية، وما استعراض قواته المليشياوية في الشوارع قبل يومين إلا دليل قاطع على مسؤوليته الشنيعه عن هذه المجازر.
بدوره، أكد الناطق باسم الحراك الشعبي في ديالى أحمد سعيد أن الميليشيات تقتل أهالي ديالى باسم حب الحسين، لافتًا إلى أن تلك الميليشيات قتلت الحسين رضي الله عنه للمرة الثانية حين استخدمت اسمه للقتل، وأكد سعيد أن الحل الوحيد لإنقاذ ديالى من بطش الميليشيات المتنفذة هو تشكيل الحرس الوطني من أهالي المنطقة ذاتها، لافتًا إلى أن رموز المحافظة ناشدوا السلطتين التشريعية والتنفيذية بتطبيق مشروع الحرس الوطني في أسرع وقت ممكن لكن لم يستجب أحد لنداءاتهم.
إذًا الهيمنة الإيرانية الكاملة على العراق عامة وديالى خاصة معلومة للعالم أجمع، والتفاهمات الأمريكية – الإيرانية باتت لا تخفى على أحد، والصمت الغربي المريب أمام تدفق المليشيات الشيعية متعددة الجنسيات إلى سوريا والعراق، كلها عوامل تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أننا أمام مخطط مكتمل الأركان لتفريغ المنطقة من السنة.
وديالى اليوم كما ذكرنا ليست صمام أمن العراق وحسب ولكنها صمام أمن المشرق العربي بأكمله، منها فقط قد يُكسر “الهلال الإيراني”، ومنها أيضًا قد يمتد وبلا توقف، وعلى “التحالف العسكري الإسلامي” الاختيار بين أن يسمح لإيران بتمدده الدموي الاستئصالي وبين أن يقوم بوقف ذلك وبأقصى سرعة، وإلا فسيدفع الجميع الثمن غاليًا.