في الرابع عشر من يناير، عقد مجلس الدفاع الوطني المصري اجتماعًا هو الأول من نوعه بعد التئام مجلس النواب الجديد في مصر، وأخذ سلسلةً من القرارات، بعضها سريٌّ وبعضها معلن، وكان من بينها الموافق لى تمديد مشاركة العناصر “اللازمة” من القوات المسلحة المصرية في مهمة قتالية خارج الحدود للدفاع عن الأمن القومي المصري والعربي في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر وباب المندب، لمدة عام إضافي أو لحين انتهاء مهمتها القتالية أيهما أقرب.
القرار استند إلى المادة 152 من الدستور، والتي تنص على أن “رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولا يعلن الحرب، ولا يرسل القوات المسلحة في مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة، إلا بعد أخذ رأى مجلس الدفاع الوطني، وموافقة مجلس النواب بأغلبية ثلثي الأعضاء. فإذا كان مجلس النواب غير قائم، يجب أخذ رأي المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وموافقة كل من مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني”.
ومن ثَمَّ؛ فإن أول ملاحظة إجرائية على القرار، هو أنه سوف يتم عرضه على مجلس النواب الجديد، والذي يقوم في الوقت الراهن بمراجعة القوانين التي صدرت بقرارات جمهورية في عهدَيْ المستشار عدلي منصور، والرئيس الحالي للبلاد، عبد الفتاح السيسي، منذ انقلاب 3 يوليو 2013م.
مجلس النواب، في ذات اليوم، أقر قرارات السيسي فيما يتعلق بمجلس الدفاع الوطني والقوات المسلحة، إلا أن لجنة القوى العاملة فيه، رفضت قانون الخدمة المدنية الذي أثار الجدل في العديد من الأوساط، وخصوصًا أساتذة الجامعة، الذين افتئت القانون على الكادر الخاص بهم، والذي تم إقراره في عهد الدكتور محمد مرسي، وموظفي الحكومة والجهاز الإداري للدولة؛ حيث يفتئت القانون على حقوق مالية كانت لهم في الوضع السابق على أقرار القانون الجديد.
لا أحد يعلم على وجه الدقة، ما إذا كان مجلس النواب الجديد سوف يوافق على قرار مجلس الدفاع الوطني، أم لا؛ لكن في الغالب، ووفق ما تم إلى الآن في صدد “مراجعات” مجلس النواب للقرارات بقوانين التي أصدرها كلٌّ من منصور والسيسي، ووفق طبيعة تكوين البرلمان الجديد؛ ففي الغالب سوف تتم الموافقة.
القرار يأتي في إطار منظومة من التحولات التي يشهدها الداخل المصري، وفي إطار حالة من الترقُّب لما سوف يجري في الذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م.
ومن أبرز هذه التحولات، على المستوى الداخلي، انعقاد البرلمان، بكل ما لذلك من تبعات على الداخل المصري، بالإضافة إلى الأزمة الراهنة بين الدولة وبين المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، وتصاعد الوضع الأمني في شمال سيناء.
على المستوى الإقليمي يأتي القرار المصري على صلةٍ مباشرة بالأزمة المتفاعلة بين طهران والرياض، ولذلك؛ فإنه من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن القرار الأخير لمجلس الدفاع الوطني المصري، بالرغم من أنه يمس العديد من الملفات والأطراف، في الداخل والخارج، والتي سوف نتعرف عليها؛ إلا أنه في الأساس والأصيل؛ يخص الرياض قبل أي طرف آخر.
يأتي القرار المصري في ظل حرب دبلوماسية وإعلامية، وكذلك عسكرية مباشرة وصريحة في سوريا واليمن، متصاعد بين كل من السعودية وإيران، على خلفية قضية إعدام القيادي الشيعي الشيخ نمر النمر.
وصلت الأزمة إلى ذروتها بإنهاء الرياض للهدنة المعلنة من جانب واحد في اليمن، بعد حرق السفارة والقنصلية السعوديتَيْن في طهران ومشهد، وبدء الرياض في توجيه الفصائل السورية المحاربة على الأرض، لفتح ملف المدن والقرى السورية المحاصرة من جانب قوات النظام السوري و”حزب الله” اللبناني والميليشيات الإيرانية في سوريا، والدفع باتجاه مقاطعة مؤتمر جنيف المرتقب في الخامس والعشرين من يناير الجاري، والذي سوف يجمع بين المعارضة السورية وبين ممثلين عن النظام في دمشق، واستمرار العمل المسلح حتى إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
مساقات الأزمة بين الرياض وطهران وصلت إلى مختلف المظلات الإقليمية والدولية، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي، وسط تصعيد غير مسبوق للعمليات الجوية التي يقوم بها التحالف العربي الذي تقوده الرياض، ضد الحوثيين في اليمن، بشكل لم يستثني الأهداف المدنية، بما يظهِر أن الرياض قد خرجت عن طورها في الأزمة الأخيرة مع إيران.
يرتبط القرار كذلك، بسياق آخر يتعلق بتطورات العلاقات المصرية – الخليجية، والسعودية على وجه التحديد؛ حيث عادت العلاقات بين الرياض والقاهرة إلى سابق عهدها، بعد أشهر من التوترات في عهد العاهل السعودي الجديد، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، بسبب التحولات التي أرادها سلمان في ترتيب أوراق الرياض في الإقليم، والتي شملت الإخوان المسلمين، وبعض حلفائهم، مثل تركيا.
تنوعت البواعث التي كانت وراء تفكير الملك سلمان الجديد على رأسها الموضوع الإيراني، والحرب في اليمن ضمن مظاهرها، مع وجود رغبة سعودية في مصالحة بين النظام والإخوان في مصر، للالتفات إلى مهددات أخرى وفق النظرة السعودية، وعلى رأسها “داعش” وصيرورات المشروع الإيراني في المشرق العربي، واستمرار تضاعيف ربيع الثورات العربية، على الداخل السعودي، وهو ما يتحسب له نظام آل سعود.
لا أحد يدري ما الذي حدث على وجه الدقة في الخريف الماضي، ودفع الرياض إلى استعادة علاقاتها مع القاهرة بمنظومة مساعدات اقتصادية جديدة، تضمن معالجة مشكلات مزمنة تأخذ صفة العاجلة في الاقتصاد المصري، مثل عجز الموازنة وتأمين احتياجات مصر من الوقود؛ إلا أنه تبقى شواهد أن هناك أسسًا جديدة للعلاقات المصرية السعودية قد بدأت، أو على أقل تقدير، استعادت بعض مساحاتها القديمة التي كانت قائمة خلال عهد العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود.
القرار تحدث عن دور عسكري مصري في صيانة الأمن القومي الخليجي، من خلال مهام قتالية مباشِرة تقوم بها القوات المسلحة المصرية.
وبالرغم من أن القرار كان خاليًا من تفاصيل حول طبيعة هذه المهام، إلا أن هناك تقارير سابقة تحدثت في العامَيْن الماضيَيْن عن وجود قوات مصرية خاصة في الإمارات، بجانب مرابطة وحدات بحرية مصرية في مياه بحر العرب وخليج عدن، وباب المندب.
والأخير بالذات يُعتبر أحد أهم البواعث الذاتية لمصر، للدخول في حرب اليمن الثانية، بعد خمسين عامًا من التدخل العسكري المصري في اليمن، والذي كان في ذلك الحين في إطارٍ تصادمي مع الرياض؛ لكنها المصالح التي تفعل فعلها في الشؤون السياسية!
ومن ثَمَّ؛ يمكن التأكيد على أن هناك اتجاهَيْن أساسيَّيْن لبواعث القاهرة في صدد هذا القرار، الاتجاه الأول ذاتي، ويخص بالأساس، أمن مضيق باب المندب ومجاله الحيوي، وهو من بين أهم مجالات الأمن القومي المصري، وكذلك العلاقات المصرية – الخليجية، وتحديدًا العلاقات مع كلٍّ من الإمارات والسعودية، وهو بدورها مصلحة أساسية للنظام المصري الحالي، وضمانة مهمة لاستمراره.
الاتجاه الثاني، غير ذاتي، ويخص الطرف الآخر من المعادلة، وهو الخليج العربي، وتحديدًا الرياض وأبوظبي؛ حيث إن التدخل العسكري المصري، ولو بالإعلان عنه بالاسم، من دون مشاركة حقيقية؛ يمثل قيمة مهمة للغاية للأمن القومي الخليجي، وبالذات بالنسبة للبلدان المرتبطة بمحور الرياض – أبوظبي في مجلس التعاون الخليجي، وهي الكويت والبحرين، والتي تُعتبر مُهدَّدة في أمنها القومي أكثر من غيرها، بسبب أولاً ضعف مقدراتها كدولٍ قادرة على التصدي لمهددات أمن قومي داخلية وخارجية، وكونها أكثر من غيرها عرضة للتهديد الإيراني، المباشر، كما في حالة البحرين، وغير المباشر من خلال الأقليات الشيعية، كما في حالة الكويت والبحرين، بجانب السعودية.
وثمَّة أمر مهم في هذا القرار، ولا يناقشه الكثيرون؛ حيث يكتفون بالجانب السياسي الظاهر للأمر، وهو تبعات القرار فيما يخص الإقليم، ودلالاته في صدد شبكة العلاقات والتحالفات في المنطقة، وهو الجانب التقني العسكري المتعلق بالجيش المصري.
بدايةً في هذا الصدد، من بين الحقائق المهمة في المجال العسكري، وتنطبق على قوات المسلحة في أي بلدٍ في العالم، صغرى وكبرى، حتى القوات المسلحة للولايات المتحدة، الأقوى والأكثر تمويلاً في العالم، والأكثر اعتمادية على التقنية الحديثة، وهي حقيقة أنه لا توجد قوات مسلحة قادرة على خوض معارك في جبهتَيْن معًا.
وعندما فعلتها الولايات المتحدة في كلٍّ من العراق وأفغانستان، من المعروف النتائج، وحجم الخسائر التي عانتها القوات الأمريكية في كلا البلدَيْن، ولم تستطع تحقيق أي نصر حاسم في كليهما، حتى بعد مرور سنوات طويلة على احتلال أفغانستان في 2001م، والعراق في 2003م.
يخوض الجيش المصري في الوقت الراهن حربًا صريحة وحقيقية في شمال سيناء، وتستهلك هذه الحرب جزء من قدرات القوات المسلحة، بما في ذلك تركيز القيادة العامة، وقيادة المنطقة الشرقية العسكرية، ومن أهميتها وقوتها، قامت القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية، بتأسيس قيادة خاصة للعمليات في شمال سيناء، يقودها اللواء أسامة عسكر.
على المستوى التقني كذلك، يلا يمكن تجاهل انغماس القوات المصرية في المنطقة الغربية، في عمليات متوسط الشدة، لتأمين الحدود الغربية، مع مهام أمنية أساسية واستراتيجية الطابع، في مدن وادي النيل.
هذه الأمور، بجانب الدور السياسي والاقتصادي الذي يلعبه الجيش في الحياة العامة في مصر؛ أثر كثيرًا على قدرة الجيش المصري على التعامل مع جبهات جديدة.
في هذه النقطة، لا أحد يعلم على وجه التحديد حجم المجهود الحربي الذي تقوم به القوات المسلحة المصرية في اليمن والبحر الأحمر، أو في بعض دول الخليج العربي، ولكن غالبية التقارير الإعلامية تتداول أن الجهد الرئيسي إما تأميني، على النحو الذي تقوم به بعض عناصر القوات الخاصة المصرية في الإمارات، أو من خلال قوات بحرية متمركزة في المياه الإقليمية لليمن والسعودية، مع بعض المجهود الحربي الجوي.
في كل الأحوال، هذه المهام ليست بالبسيطة، وخصوصًا وأنها تتم في مناطق بعيدة بآلاف الكيلومترات عن مصر؛ حيث تزداد الأعباء اللوجستية والإدارية للعمليات على القوات العاملة هناك، وللتنويه؛ فإن القوات البحرية والجوية المصرية التي عملت في مضيق باب المندب في فترة حرب رمضان / أكتوبر 1973م، لم تستمر هناك لأكثر من شهر أو شهرين، وعادت إلى مصر، بعد انتهاء الحرب، وصعوبة العمل في هذه المناطق لفترات طويلة.
اللافت في قرار مجلس الدفاع الوطني كذلك، على المستوى التقني العسكري، وكذلك السياسي أنه تضمن كلمة “العناصر اللازمة” من القوات المسلحة المصرية في “مهمة قتالية” خارج الحدود.
هذه العبارة تقود إلى الحديث عن نقطة كانت محل جدل في العلاقات المصرية – الخليجية، والسعودية خصوصًا خلال أشهر العواصف السعودية على اليمن، وهي المشاركة المصرية بقوات برية في العمليات؛ حيث إن مصر فضلت النأي بنفسها عن موضوع المشاركة البرية في الحرب، بما قد يحمله لها ذلك من مشكلات اقتصادية وسياسية، ومفاجآت غير سارة، خصوصًا فيما لو تعرضت هذه القوات لخسائر أو تم أسر بعضٍ من عناصرها.
فهل تعني عبارة “القوات اللازمة”، أن هناك قرارًا بالفعل قد تم اتخاذه بتطوير الدور العسكري المصري في حرب اليمن، وفي ملف أمن الخليج، بقوات برية، وسيتم تدريجيًّا تنفيذه في فترات لاحقة، أم أن العبارة تعني مجرَّد تحسُّب لذلك الاحتمال؟ لا أحد يدري؛ حيث أثبت النظام خلال الفترة الماضية، أنه قادر على إخفاء أوراقه جيدًا، بعد تسريبات مكتب السيسي الشهيرة، ولكنه يبقى احتمالاً قائمًا، وهو ما سوف يقود – في حال تنفيذه ومشاركة مصر بريًّا في حرب اليمن – إلى تقديرات أخرى في حينه، وبحسب نتائج تلك المشاركة.
الأمر الآخر المرتبط بالقرار المصري، يتعلق بالتحالف “الإسلامي” الذي أعلنته الرياض في نهايات 2015م، لمكافحة “الإرهاب”، والذي تحمست القاهرة بشدة للانضمام له، وكان الثمن حزمة المساعدات السعودية الأخيرة.
فهل لو جد الجِد، وأصبح هناك ضرورة لازمة لمصر، لأن تشارك في عمليات خارج أرضها ضمن هذا التحالف؛ فكيف سوف تقوم مصر بهذا؟!، وهل القوات المسلحة المصرية، أو الاقتصاد المصري، قادرَيْن على تحمل كل هذه الأعباء، أم أن الأمر سوف يتحول إلى تحقيق لنبوءة قديمة لأحد رؤساء الوزراء المصريين، وهو عاطف عبيد، عندما قال إن الجيش المصري يمكن أن يحارب خارج مصر “لو أعطوني مائة مليون دولار”؟!.. التطورات وحدها فقط هي التي سوف تجيب على هذا السؤال!
هذا هو الإطار الأساسي الذي يأتي فيه قرار مجلس الدفاع الوطني المصري بتمديد مهمة القوات المصرية العاملة في البحر الأحمر واليمن والخليج العربي، ولئن كان هناك ملاحظات باقية عليه؛ فهي تتعلق بموقف المصريين بهذا القرار؛ هل سوف يكون هناك أي موقف شعبي، خصوصًا لو قررت مصر إرسال قوات برية؟!.. أم أن لسان حاله سوف يكون: أمين؟