مضايا، يا كسرة خبز ما زالت مُتمترسة في مكانها، هناك فوق سور مدرسة مهجورة، تنتظر أن تكون سبباً في إنقاذ روح أحدهم، يا لعبة طفل لم تُغيّرها الأيام الباردة القاسية … يا أريج الجوز التي تتحدّى رائحة البارود … يا هياكل من بشر، يصرخون، يتألمون، ويحكون قصة ملحمة تنبذ في اليمّ كل فرعون طغى … يا كلّ أمّ لم تأكل حتى يأكل أبنائها، كلّ أب باع منزله وسيارته وكلّ ما يملك مقابل غرامات من الطحين وبعض المُسكّنات يُنقذ بها أطفاله من الجوع والألم.
يا مضايا البرد والجوع والبراميل والشواطئ والحدود والقوارب والمخيّمات، اختصري بالله كل المشاهد في صورة ذلك الطفل (الذي كان طفلا) يتحنّن أحد المارّة على استحياء لأنّه لم يأكل منذ أيام، أو بالله يا مضايا أوجزيها في بكاء بلا دموع لطفل يُقسم بالله أنّه لم يأكل منذ خمسة أيام، ينظر في عدسة المصوّر بعينين غائرتين تُقسمان بالله أنّهما ما عادتا تتحمّلان ألَم النظر. يسأله المصوّر الجائع كما الطفل: “يا عمو اديش صار لك بلا أكل؟” لا يملك الطفل رفاهية الإسترسال بالجواب: “7 أيام”. يستحلفه المصور، إذ كيف لطفل مثله أن يصبر على الجوع هذه المدة “قول والله العظيم”. هنا يقف الزمان ليضعنا جميعاً في إطار صورة مُتجمّدة مُتبلدّة، إذ لا يملك الطفل الجائع أن يؤّكّد للمصوّر أنّه فعلاّ لم يأكل من أسبوع، فيكون أمله الوحيد متصلاّ بالله وحده: “والله العظيم”.
مضايا، يا مضايا أقسمت عليك أن تُحدّثيهم عن صورة الطفل ـ وهل يقتل فينا إنسانيتنا غيرهم؟ – وهو ينظر إليّ كأنّي به يقول لي: انظر لي جيداً يا عمّاه، لا تشح بوجهك عنّي هكذا، أؤذيك أنا بمشهد عظامي النافرة, أليس كذلك؟ ربما تحدّثك نفسك بتغيير صورتي بأخرى مبهجة تُنسيك صرخات الموت البطيئ هل تعرف متى ذقت طعم الحياة آخر مرّة؟ هل تعرف مذاق الشهيق المتجمّد في حلقي الآن؟ ضع عينيك في عينيّ واصدقني القول يا عمّاه: هل أنا حيّ في نظركم؟ وإن كنتُ كذلك، متى تنتظرون موتي؟ وهل سيُريح ضمائركم لو قيل لكم مات كل طفل جائع في مضايا؟ حسنٌ يا أخي، وهل تتوقع للحظة أنّني لا أتمنى الموت في كل يوم على هذه الحياة؟
تموت الكلمات أمام نظرات تلك المرأة التي تحمل طفلها الهزيل أمام شاشة إحدى الفضائيات الإخبارية وهي تصرخ بصوت أظنّ أنّه خرج آنذاك من فؤادها المكلوم على أمّة تنشغل -في رفاهية مُستهجنة- حول حجاب متسابقة في برنامج غنائي مقيت، بينما لا يجد ما تبقّى في مضايا من بشر سوى أوراق الشجر ولحم القطط طعاما يسد أنين جوعه، وبعض الكراتين يحتمون بها من برد ينهش عظامهم النافرة، وهذه النظرات.
يسأله صديقه بينما يهمّ هو بذبح قطّ هزيل، كلّ ذنبه أنّه آخر ما تبقّى هناك ممّا يؤكل. يا أخي تُطعم أطفالك لحم القطط؟ نعم، القطط يُجيبه الوالد المُعدم، يُخيّروننا بين الجوع أو الركوع، يا أخي نجوع، نموت ولا نركع. هو لا يعلم بأنّ العالم المُتحضّر ركع يوم جاع أول طفل في مضايا، مؤسسات حقوق الإنسان ركعت يوم اضطر أول طفل في مضايا للبحث عن حقّه في النوم مرتوياً مُكتفياً، يبحث بين أكياس القمامة الفارغة سوى من علب بلاستيكية وأكياس أخرى كثيرة
مضايا أخت الزبداني شقيقة دير الزور بنت مخيم اليرموك وحي الوعر صديقة تعز والرمادي، أيقونات تكشف على الدوام لا إنسانية هذا العالم الذي يستكمل حياته بلا وعي بينما يموت أبناء العالم الثالث من الجوع بوعي كامل. الإنسان في عالم 2016 ركع يوم شاهد وببث حيّ ومُباشر وعلى شاشات التلفاز – وبنغمة موسيقية حزينة في خلفية المشهد – موت أخيه الإنسان، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يشهق ويزفر، عظامه النافرة كانت تشهق وتزفر أيضًا، عيناه الجاحظتان، الزرقة على أطرافه، الموت الصاخب. ركع الإنسان في العالم، ورفع السوري سبابته