هل تأمّلت يومًا أثناء قراءتك للأعداد، وهل لفت نظرك مرة طريقة ترتيبها، ألم يسترعِ انتباهك في يوم أننا نقول: عشرة، مئة، ألف، عشرة آلاف، مئة ألف، ولا نقول مثلاً بدل خمسة آلاف خمسون مئة، أو بدل عشرة آلاف: مئة مئة، كما يُقال في العربية عن المليون – الكلمة المعربة حديثًا – ألفُ ألف.
في اللغة العربية هناك شيء يعرف بـ “حساب الجُمَّل ” أو “الحساب الأبجدي”؛ إذ لكل حرف قيمته الرقمية الثابتة وذلك حسب موقعه من الترتيب الأبجدي المعروف “أَبْجَد هَـوَّز حُـطِّي كَـلَـمُـن سَـعْـفَـص قَـرَشَـت ثَـخَـذْ ضَـظَـغْ”، وذلك على النحو التالي كما في الجدول أدناه:
كانت العرب في الجاهلية تعبّر من خلال استخدام هذه الطريقة عن الأرقام، وتؤرّخ للأحداث شعرًا أو نثرًا، واستمر الأمر كذلك حيث تلقاه المتأخرون عن المتقدمين، ودرجوا على استخدامه، وجملة الطرق المتبعة في ذلك ثلاث: من الجدول السابق يتضح لنا المنطق الذي دعا العرب ليكون العدد “ألف” هو أكبر وحدة رقمية، وليشيروا للأعداد الكبيرة من خلاله، وحتى لو وصل العدد إلى مليون أو مليار فإنهم كانوا يشيرون إليه بألف ألف وألف ألف ألف على التوالي، وهكذا.
· الطريقة الأولى: أن يُشار إلى التاريخ أو الرقم من خلال ذكر الحرف بإشارة واضحة دون أن تدخل في كلمة أو تركيب، وهذه الطريقة نادرة الاستخدام قليلة التداول .
– مثال ذلك: قول الإمام ابن الجزري في مقدّمته المشهورة “المقدّمة فيما يجب على قارئ القرآن أن يعلمَه” والمعروفة بـ “مقدّمة ابن الجزري”، إذ ذكر عدد أبيات القصيدة قائلاً:
“أبياتها قافٌ وزايٌ في العدد …. من يحسن التجويد يظفر بالرشد”
ق + ز = 100 + 7 = 107 وهو عدد أبيات القصيدة.
· الطريقة الثانية: أن يُشار إلى التاريخ أو الرقم من خلال المجموع الرقمي للحروف في كلمة واحدة أو أكثر.
– مثال ذلك ما ذكره الأديب الحسن بن قويدر الخليلي في منظومته “نيل الأرب في مثلثات العرب”، إذ أرّخ للقصيدة في آخرها مفتخرًا:
خذها ودع يا صاحبي تأبيخي … تُـضـيء مـثـل كـوكـب الـمـريـخ
مُذ خُتـمـتْ بأحـسـن التـاريـخ … فــاقــت بـــنـــورهــا عُـــقــود الــدرّ
80+1+100+400، 2+50+6+200+5+1، 70+100+6+4، 1+30+4+200 = 1260
مخطوطة نيل الأرب في مثلثات العرب ويظهر فيها تأريخ القصيدة سنة 1260هـ
· الطريقة الثالثة: أن يُشار إلى التاريخ أو الرقم من خلال المجموع الرقمي للحرف الأول من عدة كلمات أو جملة.
– مثال هذه الطريقة القصيدةُ العظيمة والأرجوزة البديعة – اسمًا ووصفًا – “بديعة البيان عن موت الأعيان” لابن ناصر الدين الدمشقي من مؤرخي القرن التاسع الهجري، وهي أرجوزة في التراجم، على طريقة مبتكرة في تواريخ الوفيات مستخدمًا حساب الجُمَّل فيها، في 900 بيت من الشعر الموزون على بحر الرجز، أرّخ فيها وفيات الحفّاظ بدءًا بصحابة رسول الله صلى الله، ومستفتحًا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ففي الياء الأولى من كلمة “يضيء” والجيم من كلمة “جود” رمز الوفاة، وهو سنة 13 هـ، وهي السنة التي مات فيها أبو بكر رضي الله عنه.
وقد أوضح منهاجه هذا في مقدمة النظم بقوله:
يساعد حساب الجمل المؤرخينَ في تحديد بعض التواريخ، وتأريخ بعض الأحداث؛ فمثلاً للشيخ سليمان الجمزوري منظومة مشتهرة جدًا في علم التجويد تُعرفُ بـ “تحفة الأطفال والغلمان في تجويد القرآن”، ورغم أن سنة وفاته غير معلومة بالتحديد إلّا أن المؤرخين متفقون على أنّ وفاته كانت بعد سنة 1212 هـ، وذلك استنادًا منهم إلى تاريخ تأليف المنظومة كما أورده فيها إذ قال واصفًا عدد أبياتها وزمن تأليفها:
أبياتها “ندّ بدا ” لذي النهى .. تاريخها “بشرى” لمن يتقنها.
(50+4+2+4+1=61) (2+1000+200+10= 1212)
شبيهٌ بهذا ما تجده منقوشًا على بوابة المسجد الحسيني وسط العاصمة الأردنية عمان، إذ نُقشت فوق باب المسجد أبيات تؤرّخ زيارة الملك المؤسس عبد الله الأول حين وصوله عمان إبّان تأسيس إمارة شرق الأردن، وكان تأسيس المسجد في 1341هـ الموافق 1923م، وفي ختام الأبيات تاريخها
لذاك سعيدُ الجدّ قال مؤرّخا … بـفـضـل حُـسـيـن جـلّ مـسـجـد عــمّـان.
2+80+800+30، 8+60+10+50، 3+30، 40+60+3+4، 70+40+1+50 = 1341 هـ
صورة لمدخل المسجد الحسيني في العاصمة عمان، وقد نقشت فوق البوابة قصيدة في مدح الملك المؤسس عبد الله الأول، والرمز لتاريخ القصيدة في البيت الأخير.
بهذه الطريقة اللامعة، الفنيّة والأدبية في آنٍ معًا، استطاع العرب تأريخ الأحداث في ثنايا شعرهم وأدبهم، وحفظها وتناقلها، على أنه يبقى بين أيدينا هنا تساؤل مشروع:
إن كانت الأعداد في العربية تتوافق مع نظائرها من الحروف، فما هو تفسير ذلك بالنسبة للّغات الأخرى كالإنجليزية أو التركيّة مثلاً؛ ففي الإنجليزية نستخدم المنطق العربيّ ذاته فنقول five thousands ولا نقول fifty hundreds، رغم أن عدد حروف اللغة الإنجليزية هو 26، وكذلك الحال في التركيّة التي يبلغ عدد حروفها 29، وربما في لغات أخرى ، بل وربما في كلّ اللغات، فهل انتقلَ استعمال الأعداد على هذا النحو من العرب إلى غيرهم دون النظر إلى علاقة الأعداد بالحروف، أم ثمّة هناك تفسير آخر؟
أظنّ أننا نحتاج دراسة وافية للإجابة عن مثل هذا السؤال الدقيق.