شهدت شبه جزيرة اسطنبول التاريخية، والتي ينتشر في أفقها معالم الهندسة والعمارة العثمانية والبيزنطية التي تضم كلاً من المسجد الأزرق ومتحف آيا صوفيا، فصلًا جديدًا من فصول الإرهاب المقزز في 12 يناير الجاري، حيث فجر انتحاري سعودي المولد، سوري الجنسية، يُعتقد على نطاق واسع بأنه تابع لتنظيم الدولة الإسلامية، قنبلة في قلب المنطقة التاريخية باسطنبول، مما أسفر عن مقتل 10 أشخاص وإصابة 15 آخرين، وثمانية على الأقل من القتلى كانوا من المواطنين الألمان، وفقًا للبيانات الرسمية.
الدلالات التي يطرحها هذا الانفجار الأخير، تشير إلى أن تركيا تعاني من اليوم من ألم ولهيب كونها بلد جوار للحرب الأهلية الناشبة في سوريا وللدولة الفاشلة في العراق، إذا صح القول، وفي هذه الآونة، لا يوجد حلول سريعة لمواجهة هذه التحديات التي تقبع في طريق الدولة التركية.
وحقيقة أن البلاد شهدت ذاك اليوم هجومها الإرهابي الرابع خلال أقل من عام، تؤكد بوضوح النقطة سالفة الذكر؛ ففي الواقع، لم يحدث على مر التاريخ وأن واجهت تركيا مثل هذا التهديد المستمر من شبكة إرهابية دولية.
تركيا تحت وطأة الهجمات الإرهابية متكررة
بغية رسم صورة دقيقة لهذا الهجوم الأخير، حول معناه وآثاره المحتملة، يتوجب علينا وضعه ضمن سياقه الاستمراري؛ فخلال أقل من عام، شهدت تركيا أربعة هجمات إرهابية ذات طبيعة مماثلة، وجميعها يُعتقد على نطاق واسع بأنها نُفذت على أيدي أفراد تابعين لتنظيم الدولة الإسلامية.
وقع التفجير الأول في 5 يونيو في ديار بكر خلال اجتماع حاشد لحزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد قبل الانتخابات التركية في 7 يونيو لعام 2015، وحصد التفجير حياة شخصين وأسفر عن إصابة أكثر من 100 شخص آخر.
التفجير الثاني حصل في 20 يوليو لعام 2015 خلال تجمع لناشطي الشباب اليساريين الأكراد في المركز الثقافي في بلدة سروج ذات الأغلبية الكردية جنوب شرق تركيا، حيث كان التجمع يهدف لتقديم المساعدات لمدينة كوباني السورية المحاصرة من قِبل داعش، وأسفر عن مقتل 32 شخصًا وإصابة أكثر من 100 آخرين.
التفجير الثالث كان أعنف هجوم إرهابي في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، ووقع في 10 أكتوبر خلال مسيرة نظمتها الأحزاب الكردية واليسارية ومنظمات المجتمع المدني في العاصمة أنقرة، وأسفر التفجير عن مقتل 102 شخصًا وجرح مئات آخرين.
تظهر الخلفية التاريخية بأن هذه الهجمات الإرهابية ومرتكبيها يسعون لتحقيق أهداف سياسية واضحة من خلال تنفيذ هذه الاعتداءات، حيث كان المستهدف الأساسي هو التنوع العرقي (الكردي-التركي) والطائفي في تركيا، وبالمختصر، استهدفت هذه الهجمات خطوط الصدع السياسية في تركيا.
خطوط الصدع الاقتصادية التركية
بالمقابل، من الواضح أن الهجوم الذي وقع مؤخرًا استهدف شرايين الحياة الاقتصادية في تركيا؛ فهذا الهجوم لم يحدث في مدينة داخلية ليُستهدف من خلاله الضحايا الأتراك، بل بدلًا من ذلك، وقع في قلب منطقة جذب سياحي رئيسية في تركيا باسطنبول، حاصدًا أرواح ضحايا من السياح، بنسبة سياح ألمان كبيرة بشكل غير متناسب مع باقي الجنسيات المستهدفة.
إذا عرفنا بأن تركيا تستقبل سنوياً ما بين 35 إلى 40 مليون سائح، سندرك بأن السياحة تعد إحدى أهم القطاعات الرئيسية المدرّة للدخل في تركيا، حيث تساهم السياحة في رفد الميزانية التركية بحوالي 34 مليار دولار، وبالنظر إلى مجموعة المواقع والأهداف التي ضربها، يبدو بأن الهجوم يهدف إلى تعطيل قطاع السياحة في تركيا من خلال تصوير البلاد على أنها غير آمنة.
كما ذكّرتنا هجمات باريس، يهدف الإرهاب لتعطيل الحياة الطبيعية والعادات اليومية، وكما سيكون تجنب باريس بهدف السياحة أو الاستجمام بمثابة تسليم رمزي بانتصار الإرهاب، سيحمل تجنب اسطنبول كمقصد سياحي جرّاء الإرهاب الذي ضربها ذات المعنى الرمزي؛ فالحياة الطبيعية ينبغي أن تطغى على الخوف الذي يُستعمل كأداة للإرهاب والفوضى.
بالإضافة إلى ذلك، وسواء عن قصد أو بغير قصد، فإن هوية الانتحاري كمواطن سوري، سعودي المولد، تبدو مقصودة لإثارة التوترات تجاه اللاجئين السوريين في تركيا، ومن هذا المنطلق، تتحمل السلطات التركية المسؤولية الكاملة عن ضمان أن هذا الهجوم لن يستخدم كذريعة لتشويه صورة اللاجئين وضحايا الحرب؛ فاللاجئون السوريون الذين يعيشون في تركيا هم أنفسهم ضحايا لذات الإرهاب الذي اشتعل منفجراً في ساحة اسطنبول يوم الثلاثاء الماضي، وهؤلاء الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل، ووجدوا أنفسهم محاصرين ما بين مطرقة إرهاب داعش وسندان إرهاب نظام الأسد، لم يكن لديهم أي خيار آخر تقريبًا سوى الفرار من بلادهم سعيًا لمستقبل أفضل في مكان آخر.
وفي هذا الصدد، لا ينبغي أن يكون لهذا الهجوم أي تأثير على مبادرة تركيا لتحسين الظروف المعيشية للاجئين في البلاد من خلال منحهم تصاريح العمل، وهو المشروع الذي تم الإعلان عنه قبل يوم واحد فقط من التفجير، حيث صرّح نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش، بأن مجلس الوزراء اعتمد مشروع القانون، وسيتم نشره خلال الأيام القليلة المقبلة.
وفقاً لمشروع القانون الجديد، سوف يُفسح المجال أمام أرباب العمل لتوظيف نسبة من العمال السوريين تصل إلى 10% من بين موظفيهم، ويعد هذا النهج السياسة الصحيحة والناجعة والتي لا يجب التراجع عنها بعد هجوم اسطنبول الإرهابي.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تستتبع الحكومة التركية هذه الخطوة بخطوات إضافية في مجالات التعليم وغيره من الخدمات الضرورية، وفشل الدولة بالقيام بذلك، سيسفر عن التأسيس لمجتمع واسع وكامل من المجندين المحتملين في صفوف داعش، وذلك بالنظر إلى أن نقص التعليم والعمل والخدمات الضرورية الأخرى سيخلق جيلًا كاملًا عرضة لجميع أشكال التطرف.
وبالتالي، فإن مساعدة اللاجئين في الحصول على حياة أفضل ليست مجرد مقاربة وواجب أخلاقي، بل إنها جزء لا يتجزأ من البنية الأمنية الجديدة التي تسعى لاقتلاع جذور الإرهاب، وقتل ما قد يكون أساسًا محتملًا لرعاية التطرف والإرهاب، وبعبارة أخرى، أمام البلدان المضيفة للاجئين خيارين واضحين، إما الإرهاب الذي تتم تنميته محلياً، أو تحقيق تكامل أفضل للاجئين في هذه البلدان.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية