هذا المقال كتابة مشتركة بين حذيفة حمزة وأحمد سامي.
كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية ورواجًا حيث ملايين من المشجعين والمجانين حول العالم، علاقتنا بالكرة تبدأ دائمًا في سن صغيرة ومع ذلك فهي لعبة قادرة على منحنا القدر الكافي من الشجاعة للإقدام على أولى مغامراتنا الحياتية، ربما “التزويغ” من المدرسة لمتابعة مبارة الأهلي في اليابان لم تكن أكبر حماقاتنا لكنها بداياتها التي ظلت تلازمنا حد “تفويت” لقاءات ضرورية و”لم” مناهج عفا عليها الزمن ليلة الامتحان، شغفنا باللعبة كان يكبر أسرع منّا بكثير، فهي لعبة تنمو بالشغف وتنميه بداخلنا، لا مكان بداخلها لأولئك الموظفين المُملين المُتحدثين عن تشجيع اللعبة الحلوة.
هناك فرق نشجعها ولاعبون نتعلق بهم، وقدر كبير من الحرية والمهارة خاصة تلك القادمة من شواطئ الكوباكابانا، لدرجة تخرجنا عن وقارنا وتحررنا من كل القيود المكبلة للألسنة، فمن المستحيل مثلًا أن تطلب من مهووس أن يلتزم بمقعده وفريقه خاسر، ولا أن تطلب من مناصر أن يفرح بهدوء لفوز فريقه، نصاب من أجلها بنوبات من القفز الهستيريّ المستمر وتنقطع الأحبال الصوتية فداءً للفريق إثر الهتاف المتواصل للاعبينا وأيضًا بسبب السباب الذي لا نهاية له لنجم الخصم.
قابلت شيخًا غير حكيمٍ ذات مرة فقال لي: “إذا أردت اختبار صلابة أخلاق أحدهم فالعب معه الكرة”، أشفق عليه جدًا هذا الكهل، لأنه لم يلعب كرة القدم الحقيقية ولو لمرة واحدة في حياته.
أن تكون مشجعًا يعني بالضرورة اشتراكك في طقوس الهوس الجماعي مع آخرين لا يربطك بهم سوى الشغف المجنون بالمستديرة، هؤلاء الذين على استعداد للتضحية بالعالم من أجل تمريرة متقنة أومراوغة “صايعة” تطلق وراؤها الكلمة الاعتراضية الأشهر للتعجب، أو تصدٍ خرافيّ لحارس المرمى، أو هدف قاتل في اللحظات الأخيرة، لذا عندما جلس أبي يشاهد مباراة لكرة التنس توقفت كل هذه الأحلام حيث المدرجات ممتلئة بمجموعات من العواجيز الأثرياء وقواعد لعبة موضوعة بصرامة شديدة وأرضية الملعب العشبية والترابية منها مهذبة بعناية فائقة وكأنها غرفة عناية مركزة لا مجال فيها للخطأ، أصابني قدر لا بأس به من الإحباط بعد فشلي في إقناعه بعدم جدوى متابعة لعبة أكثر ما تستطيع انتزاعه من مشجعيها هو التصفيق، لعبة كهذه من الأفضل للاعبيها ارتداء رابطات العنق عوضًا عن الملابس الرياضية، كل شيء معد سلفًا بإحكامٍ شديد، ياله من يوم ممل.
في هذه الأثناء استدارت الكاميرا للنصف الآخر من الملعب ليظهر لاعبٌ له شعر طويل هائج غير مصفف، ملامحه حادة وعضلاته مفتولة وملابسه غير مهندمة إطلاقًا، يبدو أن ثمة لاعب جاء من الأدغال للتو، “صورة اللاعب رافائيل نادال”، كان المشهد ملفتًا جدًا كلحظةٍ خارج السياق تمامًا خاصة عندما كان يصرخ بكلمة إسبانية غير مفهومة* تكسر كل هذا القدر من الرتابة التي تصدرها صور العواجيز الأثرياء وقواعد اللعبة الصارمة وأناقة اللاعب الآخر.
بدا لها حينها أنّ مشردًا جاء ليحكم المدينة.
“THE KING OF CLAY”
قد يبدو غريبًا أنّ يبدأ مقال يتحدث بالأساس عن “رافا نادال” كواحدٍ من أساطير لعبة التنس بالحديث عن كرة القدم، لكن المفارقة التي تعرض لها نادال نفسه في سنٍ مبكرة هي التي أجبرتنا على ذلك، فاللاعب الجامح الذي يبدو مشردًا وكأنه نشأ في أزقة إسبانيا وحواريها ولد لأبٍ ثري يدير أعماله الخاصة وأم من سيدات المجتمع لذا فلقد حظيَ نادال بالرعاية التقليدية لأسرة أكثر ما يؤرقها هو المستقبل الدراسي بالطبع، لكن نادال الطفل كان له رأي آخر حيث كان يمارس لعبة كرة القدم والتنس في نفس الوقت ويُقال إنه برع فيهما معًا، لكن الأب الثري كان يخشى على استثماره – أي مستقبل رافائيل الدراسي – فأجبره على الاختيار بين إحدى هواياته فإما كرة القدم أو كرة المضرب.
طفل لم يتجاوز العاشرة ولد في بلد أهم معالمها وأكثر مزاراتها السياحية هو ستاد لكرة القدم حيث الكلاسيكو الأشهر في العالم بين برشلونة وريال مدريد، ذلك الطفل الذي يرى ملصقات لاعبي الكرة في كل مكان؛ في الشارع والصحف وضيوف دائمين على الشاشات، تبدو المقارنة سهلة إذ لا يوجد طفل بإمكانه مقاومة بريق الكرة وكل هذا القدر من الإغراء والشهرة المضمونة، لكن لأنه ولد ليكون استثنائيًا منذ البداية سار في الطريق الأكثر وعورة، اختار كرة المضرب، ذلك الاختيار- الذي لم ينسه شغفه القديم بكرة القدم – نجح فيما بعد في جعله واحد من ستة أشخاص فقط في إسبانيا ليس لهم أي علاقة بالكرة لكن لهم الحق بالدخول إلى غرف خلع الملابس الخاصة بالمنتخب، حيث شارك نادال لاعبي منتخب بلاده الفرحة بالانتصار الذي حققوه بالفوز بنهائيات كأس العالم لكرة القدم 2010 في جنوب أفريقيا للمرة الأولى في تاريخ البلاد.
لكن ثمة شخصية مهمة في حياة رافائيل كانت مؤمنة به منذ البداية وساعدته كثيرًا في التطور، هذه الشخصية هي عمه ومدربه ولاعب كرة المضرب السابق “توني نادال” الذي ظل وراءه حتى جعل عالم التنس يلتفت إلى الصغير القادم من مايوركا، كانت بدايات نادال توحي بأننا أمام وحش كاسر قادم ليغزو عالم التنس.
ففي عمر الـ 12 كان نادال بطلًا لإسبانيا وأوروبا في مجموعته العمرية، أما في الـ 15 صار نادال لاعبًا محترفًا، ثم في عمر الـ 17 كان أصغر لاعبًا في التاريخ يصل إلى الدور الثالث من بطولة “ويمبلدون” منذ الأسطورة الحية بروس بيكر، لكن قبل هذا التاريخ بعام واحد قرر عمه أن يلعب نادال بيده اليسرى بدلًا من يده اليمنى لتكون له الأفضلية في الساحة، واستمر الصعود الصاروخيّ للماتادور حتى فاز بكل بطولات الجراند سلام وفاز بميدالية أوليمبياد بكين، لكن اللحظة الفارقة والعلامة الأبرز في صعود رافا كانت نهائي بطولة ويمبلدون المقامة على الأراضي العشبية، النهائي كان ذو نكهة خاصة حيث التقى فيه المصنف الأول عالميًا وقتها روجر فيدرير والذي كان قد فاز على نادال في نهائي الموسم المنصرم.
بدأ اللقاء الأطول في تاريخ البطولة بفوز نادال بالمجموعة الأولى بحصة 6-4 قبل أن يعود المايسترو فيدرير ويفوز بالمجموعة الثانية 7-6 لكن نادال عاد وفاز بالمجموعة الثالثة حتى وصل إلى نقطة الفوز بالبطولة في المجموعة الرابعة وكان الجميع يستعد للاحتفال، عمه واقف في المدرجات، والده متأهب للقفز، كل شيء مثاليّ ليلقي نادال بجثته على الأرض كما يحتفل دائمًا، لكن فيدرير قرر العودة وعاد في المباراة وفاز بالمجموعة الرابعة بشق الأنفس، لتحتكم المباراة إلى مجموعة أخيرة فاصلة، الأفضلية النفسية لفيدرير الذي عاد لتوه من بعيد، لكن نادال فعل المستحيل وفاز بها الأسبانيّ بنتيجة 9-7 ليشهد العالم أمتع وأطول نهائي لبطولة ويمبلدون.
لم تكن هذه البطولة هي المعلم الأبرز في تاريخ الإسباني، فبطولة “رولان جاروس” إحدى بطولات الجراند سلام والمقامة على الملاعب الترابية، هي التي شهدت لحظات التوهج الأكبر في حياة الإسباني، فمنها بدأ رافائيل مشوار حصد الألقاب الكبيرة، لكن المدهش لم يكن فوزه بها مرة أو مرتان بل أنه فاز بهذه البطولة في تسع مناسبات في عشرة أعوامٍ فقط، إلى جانب العديد من الأرقام القياسية في ذات البطولة، حيث فاز بلقبين دون خسارة أي مجموعة، والفوز بـ31 مباراة على التوالي!
وفي كل البطولات التي كانت تقام على ملاعب ترابية كان الجميع يعرف من الذي ستؤول له الغلبة، حتى إن نسبة فوزه على الملاعب الترابية وصلت إلى 92.9% طبقًا لرابطة محترفي التنس ATP، حتى تمت تسميته “THE KING OF CLAY” أو “ملك الأراضي الترابية”.
“فلنكن واقعيين، أنا الأن المصنف التاسع عالميًا، هذه هي الحقيقة، لا أدري إن كان باستطاعتي أن أعود كما كنت أم لا”.
كان الحديث في بداية العام 2012 أن نادال هو من سيتربع على عرش التنس، ففيدرير ورغم كثرة إنجازاته إلّا أنه يسبق نادال في العمر بسنوات عدة ومع ذلك فالماتادور قريبٌ من معادلة أرقامه، لكن الرياح لم تجر بما تشتهي السفن.
كان هذا التصريح المرفق أعلاه من نادال بمثابة رصاصة الرحمة منه علينا نحن عشاقه وعلى كل متابعي التنس، يطلب منّا بطل الطفولة أن ننسى الماضي وأن نفكر بواقعية، فالإصابة التي ألمت بركبته وأبعدته كثيرًا عن الملاعب وأجبرته على الانسحاب أحيانًا أخرى، في طريقها للانتصار عليه، يطلب منّا نسيان ما كان يفعله بالمصنف الأول عالميًا حاليًا “جوكوفيتش”، يطلب منا أن ننسى كيف كان يعود من الخلف ليفوز بالمباراة بعد أن كان متأخرًا بمجموعتين نظيفتين وعلى بعد نقطة واحدة من الخسارة مثلما فعل مع الأرجنتيني نالبنديان، يطلب منّا نسيان الذكريات التي حفرت في الذاكرة.
تبدو الأحلام الوردية دائمًا صعبة المنال، فعودة نادال إلى سابق عهده صارت من المستحيلات، ربما تتأهل مصر إلى كأس العالم ولا يعود رافا!
في النهاية، مثل نادال كمثل توتي لروما بأسرها، لا يسأله أهلها فيما جاء وفيما ذهب، لا يسألونه عن عدد ألقاب الإسكوديتو التي أدخلها خزينة النادي، مثله كزيدان لفرنسا لا يسألونه ألم تخف من بوفون لتركلها على طريقة بانينكا ولا يتجرأون فيعترضون على نطحه ماتيراتزي الوغد الإيطاليّ.
* كانت هذه الكلمة غير المفهومة هي VAMOS وهي كلمة حماسية تحفيزية تشبه الكلمة الإنجليزية “COME ON”.