أضحى من المعروف الآن بأن الحرب الأمريكية المدمرة في العراق هي أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف باسم داعش، حيث ابتدرت واشنطن حربها في العراق، التي استمرت لحوالي تسع سنوات، بعملية “اجتثاث البعث” وحل الحكومة العراقية بشكل تام، وفي السنوات التي تلت ذلك، أدى دعم الولايات المتحدة للحكومة الشيعية الاستبدادية والميليشيات الشيعية العنيفة والمتوحشة إلى تأجيج حرب أهلية طائفية في البلاد التي عاش السنة والشيعة فيها لقرون متجاورين ومتآلفين.
الحرب العراقية أسفرت عن وفاة أكثر من مليون عراقي، وفقًا لدراسة من تأليف المنظمة الطبية الحائزة على جائزة نوبل، رابطة الأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية، حيث جاء في التقرير “تقدير الأعداد يعد تقديرًا متحفظًا”.
الذنْب الغربي في الحرب العراقية وما بعدها لم يعد مثار جدل بعد اليوم، فحتى رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، اعتراف بأن الفوضى التي نتجت عن حرب العراق، جنبًا إلى جنب مع الصراع المأساوي في سوريا، تمخضتا عن ولادة داعش؛ ففي أكتوبر، اعتذر بلير لدعم الغزو على العراق، الذي نعتته الأمم المتحدة صراحة بـ “اللاشرعي”، واعترف قائلاً: “لا يمكننا القول بأن من دعم منا الإطاحة بصدام في عام 2003 لا يتحمل أية مسؤولية عن الوضع القائم في عام 2015”.
لذلك، ومع انهيار أعذارهم القديمة، لجأ المدافعون عن الحرب على العراق إلى خلق أسطورة مثيرة للسخرية، تقول بأن صدام حسين أعطانا هدية داعش بطريقة أو بأخرى، وهذه الحجة ولّدت الكثير الجدل في أواخر ديسمبر المنصرم، عندما كتب كايل أورتن، وهو زميل في المؤسسة الفكرية البريطانية التابعة للمحافظين الجدد جمعية هنري جاكسون، مقالة افتتاحية في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “كيف منحنا صدام حسين هدية تنظيم داعش”، والذي تمت ترجمته من قِبل نون بوست ونُشر في حينه.
ضمن المقال، يزعم أورتن بأن حكومة صدام حسين تحولت من الأيديولوجية القومية العربية العلمانية لحزب البعث العربي الاشتراكي إلى الأصولية السنية المعروفة باسم السلفية، وذكر أيضًا بأن حسين سعى إلى أسلمة البلاد السياسية من خلال الحملة الإيمانية، حيث فرض نسخة من الشريعة الإسلامية، وتحالف مع الإسلاميين، لا سيما من جماعة الإخوان المسلمين، وأكّد أورتون بأن تنظيم داعش خلق نظامًا استبداديًا يشابه بنمطه النظام الذي خلقه صدام حسين.
بالإضافة إلى أورتون، قامت ليز سلاي، مديرة مكتب واشنطن بوست في بيروت، والتي رددت سابقًا ودون تمحيص أكاذيب إدارة بوش إبان الاستعداد لحرب العراق، بنشر مقال يقدم حجة مماثلة في أبريل المنصرم، وآخرون أيضًا أطلقوا ذات الحجج الواهية، وبالمحصلة، أصبحت قصة “خلق صدام حسين لداعش” أطروحة شعبية بين أولئك الذين صوروا الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق كفعل خير إنساني، بدلًا من تصويره على أنه حرب لا تتمتع بالشرعية، مبنية على الأكاذيب، وعملًا من أعمال العدوان ضد هذا البلد الذي لا يمت بصلة لتنظيم القاعدة أو هجمات 11 سبتمبر.
ولكن بعض الباحثين لم ينجرفوا مع هذا التيار، وأطلقوا مقالات مناهضة لهذه الحجج، التي ينعتونها بأنها لا تتواءم ببساطة مع الحقائق على أرض الواقع، ومن أولئك، صموئيل هيلفونت، المحاضر في جامعة بنسلفانيا وزميل في معهد أبحاث السياسة الخارجية، ومايكل بريل، طالب الدراسات عليا في جامعة جورج تاون، اللذان تعاونا على نشر تفنيد شامل ودقيق لهذه الحجج في صحيفة فورين بوليسي في 12 يناير.
أقدم هيلفونت وبريل على خطوة أحجم عن الخوض بعنائها معظم النقاد الآخرين، حيث خاضا وتمحصا بوثائق الأرشيف العراقية وبسجلات حزب البعث المؤرشفة في معهد هوفر، وخلصا إلى ذات النتيجة التي أكدها عدد لا متناهٍ من الصحفيين والمعلقين والخبراء المناهضين لحرب العراق، كما أن نتائجهم تتوافق مع ما اعترف به رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير.
“فكرة أن صدام حسين أسس لوجود داعش هي فكرة غير دقيقة ومضللة على نحو خطير”، كتب الباحثان في ورقتهما بعد غربلة الوثائق، وتابعا: “لم نجد من خلال دراستنا الصارمة لتلك السجلات أي دليل على أن صدام أو النظام البعثي في العراق كانا يبديان أي تعاطف مع الإسلامين، السلفيين، أو الوهابيين”، وأوضحا بأن الوثائق تثبت بشكل واضح بأن صدام حسين حارب التطرف الإسلامي.
انتقد هيلفونت وبريل “أنصار سرد الأسلمة”، كأورتن، وشددا على أن تحليلهما الدقيق يبين بأن صدام حسين كان “معاديًا بشدة للسلفية والوهابية”، وهما صورتان من أشكال التطرف السني اللذان اعتبرتهما حكومة حسين متلازمين ومتطابقين.
“أوضح صدام نفوره العام من أي شكل من أشكال أسلمة نظامه، لا سيّما في خطابه التاريخي في عام 1996، والذي هاجم من خلاله الإسلاميين ورجال الدين ذوي الوجهين” جاء في البحث، كما خلص الباحثان بأن حجة أورتون في مقال النيويورك تايمز حول “السلفية البعثية”، والتي يزعم من خلالها بأن العراق تحول من دولة بعثية إلى إسلامية، هي حجة “غير صحيحة ومضللة”.
وجد الباحثان أيضًا من خلال بحثهما بأن صدام حسين “كان من منتقدي الحجج الدينية التي تنفي الحاجة إلى الوحدة العربية وتروج لفكرة الوحدة الإسلامية بدلًا من ذلك”، ولم يكتفِ صدام برفض هذا الفكر، بل قال صراحة بـ “إنه لا يجوز أن تنطلي علينا حيله”.
يشير الباحثان بأن النتائج التي توصلا إليها تتوافق مع النتائج التي تمخضت عن بحوث غيرهما من الباحثين، كجوزيف ساسون وآرون فاوست، حيث تبين بحوث ساسون، بأنه وفي عام 2001، قبل عامين فقط من الغزو الأمريكي، عقدت حكومة صدام حسين اجتماعًا “لمناقشة الوهابية وكيفية محاربتها وإظهار أن تعاليمها لا تمت بصلة للإسلام الحقيقي”، كما أشار فاوست في بحثه، بأنه طوال حقبة التسعينات، عمل البعثيون العراقيون في الواقع على حظر الكتب الإسلامية وعزل الإسلاميين من المناصب في المساجد والمدارس والجيش.
صحيح أن بعض المسؤولين السابقين في حكومة صدام حسين انضموا إلى صفوف داعش، ولكن هيلفونت وبريل يشيران إلى أن “هذه الحقيقة لا ينبغي أن تكون صادمة، فمنذ عام 2003، انضم البعثيون السابقون إلى مجموعة متنوعة من الجماعات المتمردة، وليس فقط إلى تنظيم داعش، فالبعثيون تحولوا بولاءاتهم على مر الزمن وفقًا للمناخ السياسي السائد، ليوالوا المجموعات التي يعتقدون بأنها قادرة على الاستئثار بالسلطة”.
اختتم هيلفونت وبريل مقالتهما بالتأكيد على أن حرب الولايات المتحدة لعبت “دورًا أساسيًا” في انتشار التطرف العنيف في جميع أنحاء البلاد، وشددا على أنه وبغية هزيمة داعش “من المهم أن نفهم جذور الحقيقية”، من خلال الاعتراف بأن تنظيم القاعدة في العراق الذي حارب الجيش الأمريكي خلال الحرب أعاد تسمية نفسه باسم الدولة الإسلامية في العراق في عام 2006.
البحث الذي أجراه هيلفونت وبريل يجب أن يضع حدًا لهذه الأسطورة الكاذبة التي تم تداولها بشدة، وعلاوة على ذلك، ينبغي أن يلهم الناس في كل مكان على تجاهل تأثير دعاة الحرب؛ فالنقاد وصناع القرار الذين يدعون اليوم للمزيد من الحرب والتدخل العسكري في العراق هم ذاتهم الذين روجوا للأكاذيب دعمًا للغزو غير المشروع على العراق في عام 2003.
“تنظيم داعش هو عبارة عن مسخ، لا أحد يشكك في ذلك” قال المفكر الأسطوري نعوم تشومسكي في مقابلة له في مارس، وتابع: “ولكنه لم يأتِ من العدم، إنه أحد نتائج ضرب الولايات المتحدة لمجتمع هش للغاية، أي العراق، بمطرقة ثقيلة، مما أجج نزاعات طائفية لم تكن قائمة”.
“العنف الأمريكي زاد الطين بلة” أضاف تشومسكي، وأوضح: “نحن جميعًا على دراية بتلك الجرائم، التي ساعدت على بزوغ الكثير من القوى القاتلة والعنيفة، وداعش هي إحداها”، وشدد على أن استمرار الولايات المتحدة في سياساتها العسكرية لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة.
أخيرًا، فإن عمل هؤلاء الباحثين يبين بصورة قاطعة مدى تزوير الحجج التي يدلي بها أنصار حرب العراق، ويشير إلى أهمية الاعتراف بالجرائم المروعة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في هذا البلد، وإلى مسؤولية الإمبريالية الغربية التي ساعدت على ولادة الكيان المتوحش والأكثر دموية في منطقة الشرق الأوسط.
المصدر: صالون