ترجمة وتحرير نون بوست
كتبت هويدا سعد وآني برنارد:
في السنوات الأولى من الثورة السورية، صوّر الاحتجاجات في شوارع حيِّه الذي يسيطر عليه الثوار، في قلب المدينة القديمة في محافظة حمص، وحينها هتف للحرية والكرامة ممتشقًا العلم الأخضر والأبيض والأسود، العلم الرسمي للثورة السورية، وعندما حاصرت القوات الحكومية المدينة القديمة، زرع الخضروات على سطح منزل عائلته، وبكى عندما ترك الطماطم والكرمة بعد أن اضطر لمغادرة حيِّه على مضض بموجب اتفاق وقف إطلاق النار مع قوات النظام، وفي وقت لاحق، وإبان شعوره بالحنين إلى موطنه، اقتبس أبياتًا نثرية من منشور شقيقته ليقول: “لا شيء أكثر دفئًا من حيِّك، بلدك، وبيتك”.
حتى في خضم أحلك الظروف التي كان يعيشها، تعامل مع الصحفيين في جميع أنحاء العالم ببشاشة ومرح، مطلعًا إياهم على سير المعارك، ومرفقًا الرسائل النصية التي يرسلها لهم بالوجوه المبتسمة والزهور، “قريبًا”، قال ممازحًا في إحدى الدردشات على شبكة الإنترنت، “سنعود لنشارك”.
الرجل الذي أطلق على نفسه اسم أبو بلال الحمصي كان، بشكل مختصر، ثائرًا محليًا تقليديًا، وناشطًا إعلاميًا، لقد كان معروفًا على نطاق واسع بين الصحفيين الأجانب بدفاعه عن الثوار الذين يقاتلون ضد الحكومة السورية، وبكونه مصدرًا هامًا للمعلومات من الداخل، علمًا بأنه استخدم الاسم الحركي لحماية أقاربه من انتقام النظام، وهو الأمر الذي لا يزال خطرًا يساور عائلته في حال تم الكشف عن اسمه الحقيقي الآن.
لم يكن جهاديًا أجنبيًا، لقد كان مقاتلًا سوريًا يذود حمى وطنه ويدافع عن حيِّه، ورغم أنه كان محافظًا من المنظور الديني، إلا أنه كان منفتحًا على العالم الخارجي، لدرجة أن أصدقاءه القدامى صُعقوا الشهر الماضي عندما تناهى إلى أسماعهم بأنه فجر نفسه، ليصبح، كما وصفه ثناء تنظيم الدولة الإسلامية على الإنترنت “فارس الشهادة”.
الهدف الذي استهدفه أبو بلال الحمصي من خلال تفجيره الانتحاري كان يدعو للالتباس والاستغراب، حيث فجّر نفسه ضمن أترابه من سكان حمص، على بعد مسافة قصيرة من منزله القديم، وأسفر الانفجاران الانتحاريان حينها عن مقتل 30 شخصًا على الأقل وجرح نحو 100 آخرين، وبعيد العملية، تباهى تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف أيضًا باسم داعش، باستهداف “حشد المرتدين”، زاعمًا بأنه قتل العلويين، وهم الأقلية التي تسود المنطقة الموالية للحكومة في مدينة حمص.
“لم أكن أتصور بتاتًا أن يقدم أبو بلال على ذلك”، قال أحد أصدقائه، جلال التلاوي، الذي عمل معه عن كثب منذ بداية أيام الاحتجاج وحتى فترة الحصار، وأضاف: “لم يكن متطرفًا أو متعصبًا، إلا أن موقفه تغيّر كليًا خلال الحصار”.
المسار الذي خاضه أبو بلال يمثل مسارًا مشتركًا سلكه عدد من المقاتلين والناشطين الذين باشروا ثورتهم كجماعات ثورية علمانية – قومية نسبيًا، وتحولوا بعدها إلى إسلاميين، ومن ثم إلى متطرفين عنيفين، كأعضاء داعش.
تَحوُّل بعض الشباب بولاءاتهم لصالح داعش كان نابعًا من التزامهم الإيديولوجي، أو بدافع من الإكراه، أو لأن هذا التحول كان الخيار الأفضل، أو ربما الأوحد، لتأمين الأسلحة والمال والحماية، ولكن ضمن البيئة المجنونة لحصار حمص، تحولت توجهات أبي بلال باطراد نحو الطائفية والمذهبية، كما أوضح لنا التلاوي.
تنامت لدى العديد من المقاتلين المحاصرين، كما يقول التلاوي، مشاعر الكره للعلويين، الذين ينتمون إلى ذات المذهب الديني للرئيس السوري، بشار الأسد، ويهيمنون على المناصب الأمنية العليا في الحكومة السورية، “قبل الثورة، لم نكن نضمر هذا الشعور تجاه أي طائفة” قال التلاوي، وأضاف: “لكن بعد ما قاسيناه، تغيّر موقفنا، وأضحينا نكره النظام وأولئك الذين يؤيدونه”.
في مايو 2014، وعندما سلّم المقاتلون المعارضون المدينة القديمة في حمص للحكومة السورية مقابل المرور الآمن إلى مناطق المعارضة، تفرّق الأصدقاء جسديًا وإيديولوجيًا.
“سنعود إلى هذه الأرض، وسنحررها بدمائنا وأجسادنا”، قال أبو بلال في مقطع فيديو صوّره بعيد صفقة المبادلة، ومن ثمّ اتجه شمالًا وشرقًا للانضمام إلى داعش، في الوقت الذي اختار به التلاوي الإحجام عن التطرف، والبقاء مع الجماعات المسلحة التي تحارب الأسد وداعش.
نشأ أبو بلال، 28 عامًا، في مدينة حمص القديمة، ولكن أصدقاءه من الناشطين يقولون بأنهم لا يعرفون الكثير عن طفولته، وبعد اندلاع الاحتجاجات ضد حكم الأسد في عام 2011 في حيه الحمصي القديم، باب الدريب، كان أبو بلال أحد أول الأشخاص الذين انضموا للحراك المعارض بعمق، كما يقول التلاوي.
أبو بلال، ذو العيون الكبيرة الناعسة والخدين الممتلئين، كان يتمتع بموهبة الاتصال، حيث أمضى ساعات على الإنترنت، مُطْلعًا الصحفيين بمسار الاحتجاجات والمعارك وعمليات القصف، في وقت أضحى فيه من الصعب للغاية على الصحفيين تغطية الأخبار شخصيًا من على الأرض.
ولكن مع بدء حصار القوات الحكومية لأحياء حمص القديمة، أضحت الأوضاع في الداخل غير متصورة أو محمولة، حيث أحال قصف جيش النظام شوارع الطفولة المألوفة إلى تلال من الأنقاض اللامستوية المليئة بأسياخ الحديد المتشابكة من أنقاض المباني المدمرة، كما أسفر شحّ المواد الغذائية عن قيام السكان بطبخ وأكل بذور الفاكهة، في الوقت الذي كان فيه معظم كبار قادة الثوار فقط يتمتعون بما يكفي من الطعام.
بعد استغلال داعش للإنترنت لشن حملته الإعلامية الهائلة، عقد أبو بلال الأمل على احتمالية كون قادة تنظيم الدولة أكثر شرفًا ونزاهة من باقي قادة الثوار، وأصبح يلقي باللوم على العلويين ضمن رسائله للصحفيين عن معاناة حمص.
أمضى أبو بلال ساعات الحصار الخانقة بالدردشة والكتابة على الإنترنت، وإحدى جهات الاتصال التي تعرّف عليها في خضم ذلك، كما يقول، كانت امرأة لبنانية ثرية تمتلك سيارة رياضية، أرسلت له صورًا لنفسها وهي ترتدي ملابس ضيقة خلال رحلاتها إلى إيطاليا، “حتى هيفا وهبي لن تتجرأ على التقاط مثل هذه الصور!”، قال أبو بلال مشيرًا إلى المغنية اللبنانية التي اشتهرت بملابسها الفاضحة.
جهة الاتصال الأخرى التي تعرّف عليها عبر الإنترنت، كانت امرأة تونسية، كان لها أهمية كبرى في مسار أبو بلال، حيث لحقت هذه المرأة بشقيقها، وهو مقاتل في صفوف الدولة الإسلامية، إلى الرقة في سوريا، وفي نهاية المطاف، تقدم أبو بلال بطلب يدها للزواج.
في تلك الأثناء، حل موعد الرحيل الصعب من حمص إبان الصفقة التي عقدها زعماء الثوار مع النظام السوري، وحينها احتدم أبو بلال في منشوراته على الفيسبوك على زعماء الثورة والقوى الدولية، وخاصة مسؤولي الأمم المتحدة الذين ساعدوا بتسهيل عملية الإجلاء، “إنهم يزعمون بأنهم محايدون، أين الحياد؟” كتب أبو بلال في منشور له متهمًا المسؤولين الدوليين بمساعدة الأسد وحكومته، وأضاف: “إنهم يشاركون مع السفاح لترحيل السكان من أراضيهم ومنازلهم، بدلًا من معاقبة هذا النظام المجرم”.
بعد أسابيع، سيّطر تنظيم داعش على معظم أنحاء العراق، مغتنمًا مدينة الموصل، ومعلنًا قيام الخلافة، وحينئذ شعر أبو بلال بسعادة غامرة، ودافع عن المجموعة بمواجهة زملائه الثوار الذين اتهموها بتجاهل الحرب مع الأسد بغية إقامة الخلافة، “انتظر قبل أن تحكم”، كتب أبو بلال على الفيسبوك، وأضاف: “إنهم مسلمون أتقياء وأنقياء تركوا كل شيء من أجل الجهاد”.
في الشهر التالي، عاد أبو بلال لاكتئابه مرة أخرى، إبان مشاهدته للألعاب النارية المنطلقة في المناطق الموالية للنظام السوري بحمص إثر إعادة انتخاب الرئيس الأسد في انتخابات وصفها خصومه بأنها صورية وزائفة، وحينها اطردت مشاركاته لتضحى أكثر تشددًا؛ ففي يناير 2015، أشاد بالهجوم العنيف على مكاتب الصحيفة الساخرة، تشارلي إيبدو، في باريس، ناعتًا إياها بـ”العملية المباركة” التي جاءت انتقامًا من “أي أحد يقصف المسلمين”.
بحلول أبريل من العام المنصرم، أصبح أبو بلال عضوًا رسميًا في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية، حيث تزوج من المرأة التونسية الطبيبة، الذي أطلقت على نفسها لقب أم بلال، مما أهّله للحصول على مبلغ 1500 دولار التي تمنحها الدولة الإسلامية كمكافأة للزواج، وغيرها من المنافع الأخرى التي يسبغها التنظيم على أعضائه، وشرع في رحلة شهر العسل إلى مدينة الرقة، عاصمة التنظيم على نهر الفرات، وقال للتلاوي حينها: “أنا سعيد حقًا!”.
في الشهر الذي تلا ذلك، شارك أبو بلال مع أعضاء تنظيم الدولة في اجتياح مدينة تدمر، المدينة الصحراوية السورية التي تضم بعض أروع الآثار التاريخية، والتي دمّر التنظيم بعضها في وقت لاحق، وفي تلك الآونة، سجل أبو بلال حماسه للمناظر الطبيعية الصحراوية التي كان يشاهدها في تدمر من خلال منشور له على الفيسبوك قال فيه: “لدينا جميع أنواع الطيور، طيور أبو منجل، وغزلان أيضًا”.
خلال ذلك، قضى أبو بلال بعض الوقت في أعمال مساعدة معارضي الأسد ومعارضي داعش، الأصدقاء القدامى، للخروج من تدمر، حيث يشير أحد أصدقائه، خالد الحمصي، بأن أبي بلال أمّن له ما يكفي من الوقت للهروب بسلام من تدمر.
بعد زواجه، قلّص أبو بلال حديثه مع الصحفيات الإناث، ولكنه دأب على التودد باستمرار لأصدقائه القدامى من حمص، ساعيًا لتجنيدهم في صفوف داعش، حيث عرض عليهم المساعدة المالية ليتم تهريبهم إلى الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم.
“لقد كان مثابرًا على التواصل معي خصوصًا في الفترة السابقة”، قال بيبرس التلاوي، شقيق جلال، مستذكرًا الماضي، وتابع: “بدا الأمر كما لو أنه يريد مني أن أحل مكانه عند وفاته”.
الإشارة الأخيرة التي وصلت من أبي بلال قبل تفجيره لنفسه كانت مبهمة، حيث قام بتغيير رسالته الشخصية ضمن حساباته على وسائل الإعلام الاجتماعية لعبارة “اغفر لي”.
يبقى أن نشير في النهاية، إلى أن شقيقة أبي بلال وذويه، الذين يعانون من مشاكل مالية جمة في إحدى بلدان اللجوء المجاورة، رفضوا التحدث عنه، حيث قالت لنا شقيقته بمرارة عبر الهاتف: “ما الذي تودون أن تكتبوا عنه؟ هل ستقدمون المشورة للآخرين كي لا يصبحوا مثله؟”، وتابعت: “أخي استشهد، عسى أن يتقبله الله”.
المصدر: نيويورك تايمز